هبّت رياح الفجر باردةً تحمِل أنفاس المسبّحين قُبيل البزوغ ، تطرقُ النوافذ فتصدر صوتاً خفيفاً ،
تململ محمدٌ في فراشه قليلاً ثم ارتفع جفناه يطرق ظلام الحُجرة بعينيه ، تهافت إلى مسمعه همسٌ بعيد و تمتمة رنّانة تعلو وتخفت ، اجتذب نفساً طويلاً ثم نهض برفق و لازالت عيناه ناعستان لا تبصران جيداً ،
ارتدى خُفّه و تقدم خطواتٍ قليلة إلى باب الحُجرة الداخلية حيث انبثق وهجٌ برتقالي مصفرٌ خفيف يتراقص على الجدران و ألواح الخشب ،
تراءى له السراجُ الذي يضيء الغرفة موضوعاً فوق الصندوق الخشبي القديم لجدته الراحلة ،
لطالما اعتُبِر هذا الصندوق من أثمن ممتلكات العائلة فقد كان ملكاً لجدته الراحلة ، هذا الصندوق ليس من هذا البلد .. بل من خارج مياه الإقليم ؛ أحضره جده لزوجته الراحلة من غرناطة منذ عهدٍ طويل ، كان الصندوق يضج برائحة أغصان الزيتون العطرة ، قيل أن أمثال هذا الصندوق لا يُصنع إلا مرةً في السنة ، فهو من شجرة زيتون عجيبة لا تعيش إلا عاماً واحداً ، و في يومٍ معلومٍ من السنة تضج القرية الغرناطية بالأزاهيج والتهليل و صياح الصغار ، فإذا طلعت شمس ذلك اليوم أزهرت الشجرة وانعقدت زهور الزيتون و نضجت في يومها ذاك ،
استدرك محمدٌ نفسه حين ندهت والدته باسمه مناجيةً إياه بالإسراع للوضوء ، فقد اقترب الشروق و ها قد فاته الفجر جماعةً مرةً أخرى ،
التفت إلى الزاوية و أخذ إبريق الماء و توضأ بسرعة فوق إناء النحاس و افترش سجادته و اتخذ القبلة ثم كبّر ، تلا ما تيسّر له من الذكر الحكيم بقلبٍ خاشع ، لكن النعاس لا يزال يهدي بجسده النحيل ، انتهى من الصلاة و التف و أسرع نعلاه بالمشي حتى وصل لبابِ الحديد الذي يطل على ساحة المنزل الواسعة ، نظر إلى السماء الداكنة تتبدد غيومها و أشجار البرتقال وارفة تتمايل و تلامس أغصانها أسطح المنازل ، حفيف الأشجار و نقيق ضعيف للضفادع وبعض حشرات الليل تسلل إليه ، ديكُ الجيران أنذر باقتراب البزوغ و أن سيبدأ يومٌ جديد ، ظهرت النجوم واهنة و قد توهجت السماء بلون البرتقال الداكن ، ومن البعيد البعيد جاء صوت القش و العيدان و الأغصان تتكسر و تكسر هدوء المكان وتنذر بغيمة دخان قريبة ، لقد استيقظت النسوة و بدأن بإشعال النيران في المخابز و ما هي إلا فترة وجيزة و ستضج القرية برائحة الخبز الطازج ،
لازال محمدٌ واهن الجسد ناعس العينين نصف غائب عن التفكير متكئاً على الباب الحديدي يتأمل كل ما حوله فتفاجأ بصوتٍ ثقيل يطرق الرخام كأنّ بغلاً قد سقط وانقلب كل شيء و أصبحت السماء كل ما يشغل ناظريه ، تنهد بفتور و تمتم لنفسه بأن سقط من جديد ككل يومٍ بينما يحاول جاهداً أن يبعد النعاس و يستقيظ ، لكن المعضلة الأكبر الآن .. أن كيف سيقف من جديد ؟ .. صبي في الحادية عشر و قد نال منه شبح الكسل ما نال فما الدواء لهذا الداء ؟ ،
اتكأ على ساعديه و وضع ثقله كله على ذراعيه و رفع جذعه و حمداً لله أن مُدت له يد المساعدة قبل أن تزل إحدى يديه فيكمل ما تبقى من نومه هنا في الرخام البارد ،
- مُحَمّد ، أيا بُني .. ألم تستقيظ بعد ؟
سمع ضحكات جده الخافتة و صوته الرزين يرن بأذنيه فوقف محمد باحترامٍ و أخذ يد جده التي مُدّت إليه قبل قليلٍ وقبّل ظاهرها ثم أفشى السلام و صبّح عليه ، فقال عبدُ الرحمن لحفيده :
- إنك تشبه أباك كثيراً .. لقد كان يعاني جداً كي يستيقظ من النوم .. يصحو بصعوبة و كأنه كان يحلب بقرةً أو معزةً طيلة الليل ولم يكن نائماً .
- لربما كان يحلب البقرة فعلاً يا جدي
قال محمد و قهقه يواري ويستر ما أسرّه في صدره ، بينما ربّت جده على رأسه و قال :
- ربما ، من يدري .. هيا اذهب يا صغيري و لتحضر حطب الخيزران من المخزن كي نشعل بعض النيران .
بانت أمارات التعجب على محمد فقد نسي تماماً ما اليوم بينما انصرف الجد إلى المنزل ، شرد مُحمّد قليلاً ثم اتسعت عيناه وقد تذكر أخيراً ، اليومُ جُمعة ! ، إنه عيدُ الأسبوع ! ، في كل جُمُعة تجمتع العائلة إلى نيرانِ الشواء العالية ، و جمرات الشاي بالنعناع ، يحلّون بالفطائر السكرية و المعجنات المنقوعة بحليب السكر الأسمر ، يضج المكان بالأهالي و الجيران ، و ينتهي اليوم بحكاية من حكايا جده ، في الجمعة الماضية كان قد حكى لهم عن رحلة الغرناطي الذي قابله في إحدى بيوت طنجة عند مضيق جبل طارق و قد كان متجهاً إلى إشبيلية ، كان ذلك الرحالة خطاطاً عند الشيخ بن البيطار لكنه ترك الدكان و أهله بحثاً عن أخيه الضائع ، أخبرهم عن ربيع الأخ الأكبر الذي ضاع في الغابة ، و عن سُلَيمان كبير العائلة بعد أن أصيب الأب بالشلل النصفي و عن محمد ، البِكر الذي أضاع الخِراف حين غط في نومٍ عميق عند شجرة الزيتون و كان سبباً في ضياع ربيع ، وها هو الآن يبحث عنه ، يتنقل بين غرناطة و نهر شنيل و نهر الوادي الكبير آملاً أن يصل لقرطبة ، تأمل محمدٌ رحلة محمدٍ الغرناطي ، و تساءل في نفسه كثيراً .. فهل سيجد الغرناطي شقيقه ؟ ، وهل ربما .. في يومٍ ما سيترك هو ..
محمدٌ بن ضيْعَته الجميلة ، كل هذا الهدوء بحثاً عن شيء ما ؟ ..
المفضلات