بسم الله الرحمن الرحيم..
والصلاة والسلام على افضل خلق الله والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى اله وصحبه ومن والاه الى يوم الدين، وبعد:
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه:
(ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، وخلقناكم أزواجاً، وجعلنا نومكم سباتاً، وجعلنا الليل لباساً، وجعلنا النهار معاشاً، وبنينا فوقكم سبعاً شداداً، وجعلنا سراجاً وهاجاً، وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً، لنخرج به حباً ونباتاً، وجنات ألفافاً)[النبأ:5-16]
منذ بداية الخلق، اعتاد الانسان ان يسير في هذا العالم وفق قوانين محددة تسيِّر له حياته وتنظم له اموره، واذا تأملنا الكون.. لرأينا ان لكل شيء حولنا نظام معين يسير فيه، فالكواكب والنجوم مثلاً تسير وفق نظام دقيق لا يتخلخل ولايتزعزع؛ ولو حدث، لانهار هذا النظام، ولاصطدمت الكواكب بالكواكب والنجوم بالنجوم والكواكب بالنجوم:
( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) [يس:40]
(وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) [الانبياء:33]
حتى الطفل في بطن امه لا يتكون ولا يصبح انساناً كاملا بجميع صفاته ومميزاته الانسانية الا اذا مر بأطوار محددة ونظام معين.
( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا) [المؤمنون:14]
ولا يمكن لانسان في رأسه ذرة عقل ان يقول بأن هذه القوانين وهذه الانظمة التي تُسيِّر هذا الكون بمن فيه ولدت عن طريق الصدفة!
يقول ابن القيم رحمه الله:
تأمل أحوال النحل، وما فيها من العبر والآيات، فانظر إليها وإلى اجتهادها في صنعة العسل، وبنائها البيوت المسدسة التي هي من أتم الأشكال وأحسنهااستدارة، وأحكمها صنعاً، فإذا انضم بعضها إلى بعض لم يكن بينها فرجة ولاخلل، كل هذا بغير مقياس ولا آلة، وتلك من أثر صنع الله وإلهامه إياها وإيحائه إليها ؛
كما قال تعالى:
( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) [النحل:68-69]
ومن المضحك ان نرى بعضا ممن انكروا وجود الله، يدّعون بأن هذا الكون خلق صدفة، او انه خلق نفسه بنفسه، مع علمهم بأن الطبيعة اوالحياة مادة صماء، لا تنطق ولا تعقل، مع ذلك يقرون بأنها اوجدت نفسها بنفسها عن طريق الصدفة!
القصد من هذه المقدمة –ولو اني استرسلت فيها قليلا- ان لهذا الكون قانون معين وضعه خالق هذا الكون، العالم بحاله وطبيعته، وضعه حتى يسير عليه الكون بالطريقه الصحيحة المثالية، فلا يضطرب ولايتزعزع.
وكذا الامر بالنسبة لمنهجنا الاسلامي، فالله تعالى هو من خلقنا، وهو العالم بما يناسب طبيعتنا البشرية، ومن رحمة الله علينا انه شرع لنا هذا الدين وفق ما يناسب فطرتنا التي خلقنا عليها، لذلك نجد ان من فهم هذا الدين بالطريقة الصحيحة، يحيا حياة سعيدة مستقرة في ظل تعاليمه، حتى اذا ما وقع عليه من الله ابتلاء، فهو يعلم ان في هذا الابتلاء -اذا صبر واحتسب- خير كثير، وحسبنا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط”
اما من جَهِل هذا الدين فتجده تائه يتخبط، لا يعلم اين السبيل للصلاح والهداية.
ان فهمنا لحقيقة هذا الدين، ومعرفتنا بطريقة عمله، هو اساس تحقيقه؛ فكونه منزلا من السماء لا يعني أنه يعمل بطريقة سحرية خارقة للتصور الانساني، لذلك نجد ان الحضارة الاسلامية في فترات محددة قد علت وارتفعت، فكانت الحضارات الاخرى لا تساوي شيئا امام حضارتها.
وفي فترات اخرى نجد ان الحضارة الاسلامية قد هبطت وانحدرت، واصبحت في اخر الركب بعد ان كانت تحتل المقدمة بين الامم:
(ان يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرحٌ مثله، وتلك الايام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين امنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) [آل عمران:140]
فهل يمكن ان نقول بأن هذا يحدث بسبب خلل ما في هذا الدين، ام خلل في طريقة تفكيرنا وفي مفهومنا لطريقة عمله وتحقيقه؟!
يقول سيد قطب في كتابه –هذا الدين-:
ان البعض ينتظر من هذا الدين –ما دام منزلا من عند الله- ان يعمل بطريقة سحرية غامضة الاسباب، ودون اي اعتبارلطبيعة البشر، ولطاقاتهم الفطرية، ولواقعهم المادي، في اية مرحلة من مراحل نموهم، وفي اي بيئة من بيئاتهم
ان هذا الدين لا يمكن تحقيقه في حياة البشر الا بجهد البشر انفسهم كما انه يعمل في حدود الطاقة البشرية وفي حدود الواقع المادي للحياة الانسانية في كل بيئة، مما يجعله قابلا للتحقيق في كل زمان ومكان.
فنجده في فترات يرتقي بالمسلمين بسبب ان المسلمين قد بذلوا كل جهدهم في تحقيقه، وفي فترات اخرى، عندما يبتعد المسلمون عن هذا الدين ويتقاعسوا عن تحقيقه، ملاحقين الانظمة الوضعية، تاركين خلفهم ما شرعه الله لهم، فإنهم يضعفوا وينحدروا.
والسبب وراء هذا ان الله تعالى قد خلق هذا الدين مع ما يناسب الانسان وفطرته، بعيداً عن الهوى والجهل والقصور الانساني، فواضعه هو خالق هذا الكائن، العليم بما يصلحه ويصلح له، وهو المطلع على خفايا تكوينه وتركيبه، وخفايا الملابسات الارضية والكونية كلها في مدى الحياة البشرية؛ فلا يمكن ان يأتي انسان ما ويضع منهجا كاملا متكاملا خاليا من الهوى والجهل، وهذا عائد الى الحدود التي وضعها الله للعقل البشري.
ومخطىء من يظن ان الله تعالى قد تركنا واهملنا، فقد ارسل الينا الرسل بالهدى ودين الحق فكانت طاعتهم مفتاح الدخول الى الجنة، وعصيانهم هو السبيل لجهنم.
ان الارادة والتصميم هما اساس تحقيق هذاالمنهج الالهي، فقد شاء الله ان يجعل الهدى ثمرة للجهد والرغبة في الهدى؛ وشاء ان يتم تحقيق منهجه الالهي للحياة البشرية عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية:
قال تعالى: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [العنكبوت:69]
وقال: (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[الرعد:11]
وقد شاء الله تبارك وتعالى ان يخلق الانسان بهذه الفطرة لحكمة يعلمها وحده، وليس لاحد من خلقه ان يسأله –سبحانه- لماذا شاء هذا كله على هذا النحو الذي اراده، ليس لاحد من خلقه ان يسأله –سبحانه- ما دام ان احدا من خلقه ليس الها وليس لديه العلم ولا امكان العلم بالنظام الكلي لهذا الكون، ومقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود.
تم الاستعانة بكتاب هذا الدين، لـ سيد قطب
المفضلات