كانت رسائلُه متراكمةً على البريد، تتسرّب من الفتحة الصّغيرة للصندوق الشّاحب، تتناثُر على الأرض، تُصافح العُشب الأخضر تحتها، وسطوع الشّمس على البيوت الملونة الزاهية لضاحية المدينة الحديثةِ تزيد المشهد بهاءً، تنسجم وفوضَى الخطى العابرة فوق الرّصيف.
كان نهار سبتٍ اعتياديٍّ تماماً، بين أن يمضِي المرءُ إلى حيثُ تكمُن حاجته أو يختارَ البقاء، ما مِن شيءٍ يستعجل أي شخص! لا إلحاح، ولا حالةً طارئة ترسم لوحة متوتّرة لهذا الوقت من الصباح. وكانت الأصوات كذلِك تعكس حالة النشاط المرِح هذا، دون صخب أو هدوء قاتل. مزيج بين اثنين؛ يركضُ أطفالُ المنزل المقابل لحوض السباحة في الحديقة الخلفية، الجارةُ في المنزل المجاور ذي اللّون الأزرق تُمسك يد طفلٍ في العاشرة ويتّجهان صوب شاحنة المثلّجات، تلك التي يقف أمامها ثلاثة أطفالٍ ينتظرُ كلٌّ منهم دورهُ بصبرٍ نافذ.
العجوزان على شرفة المنزل الأيمن بلونه البنيّ التقليديّ وسقفهٍ الداكن الحُمرةِ يجلسان على الكراسي الخشبيّة المتجاورة تفصلهما طاولة دائرية صغيرة فوقها كوبان من عصير اللّيمون المثلّج. الرجل منكفئٌ خلف الصحيفة لكنّه يرفع رأسه ويتأمّل عابراً أو اثنينِ بين لحظةٍ وأخرى، والمرأة المسنّة وقفت بعد أن انتصف ما في كوبها ومضت حيثُ تنتظرها النباتاتُ المتجاورة على الدّرج لتشذّبها بيدٍ بارعة وخطوات مدروسة، تأتي على الشجيرات والأزهار البنفسجيّة باهتمام.
مراهقان يتسابقان بدراجاتهما الهوائية، ورجلٌ شابٌ يركضُ وقد ارتدى سمّاعاته اللّاسيكية وحذاء ركضٍ لامعٍ جديد.
وحدهُ المنزل الأحمر المقابل لصندوق البريد المبعثرِ ظلّ هادئاً، تتنفّس جدرانه غياب صاحبها، وتشتاق، تشتاق للغائب البعيد، للرّاحل الّذي ترك أريكةً دافئة مريحةً عليها وشاحٌ حاكته يد جدّته ذات يوم، ومكتبة سكن الغبار رفوفها لكنّ الكتب أبت أن تفتح أوراقها للذّرات البنية الغادرة، الصور على الجدران تحمل صوره، ابتسامته، شيئاً من محطّات حياته ولحظاتها الانتقالية.
كلّ شيءٍ يمتلئ بالذكرى، يزفرُ الحنين آهاتٍ تزدادُ حين تحلّ ليالي الشتاء الموحشة، ويبقى الصّمت ذو الحضور الأقوى .. يؤكد على البعد يحمل بصمته، وكل مافي أعماق المنزل يتساءل: أتراهُ يعود؟ ومتى؟
-تمت-
المفضلات