- وهكذا استطاع الحطاب بإستعمال الفأس الذي كان بحوزته ان يمزق معدة الذئب الشرير مُخرجاً احشائه باحثاً بلهفة عن ضحاياه التي إلتهمها والدماء تغطي الكثير من اركان غرفة الجدة ترك الفأس جانباً واستخدم يديه ليُسرع العملية لكنه لم يجد الا ماتبقى من جسد ذات الرداء الاحمر وجدتها الممزق الى قطع صغيرة حيث طحنهما الذئب بأسنانه الحادة ، وهكذا تلاشت احلام ذلك الحطاب اليافع في ان يصبح بطلا كأحد ابطال تلك القصص الخيالية .
---
اغلق صفحات الكتاب المتواضع الذي كان بين يديه ووضعه على احد الارفف بجواره لينضم الى اخوانه من الكتب المُتراصة والمتواضعة بدورها ، احنى ظهره للأمام ليُعطي الطفلة المُمددة على الفراش قبلة ماقبل النوم في حين نطقت الاخيرة في لهفة
- ماذا حدث للحطاب بعد ذلك ؟
- فقط اصبحت احلامه مجرد وهم وذكرى من الماضي وعاش تعيساً الى اخر يوم في عمره
رفع غطاء النوم ليُقارب ذقنها واردف : والان يجب ان تنامي فلديكِ يوم طويل غداً
واغلق الضوء الخافت بجانبها والذي كان يضيء جزءاً كبيراً من الغرفة قبل ان تغوص في الظلام الدامس ، خرج بعد ان اعطى صغيرته نظرةً اخيرة واغلق الباب خلفه
اخذ شمعة كانت مُلتصقه بالحائط لتُنير له الدرب ، كانت ليلةً مظلمة ممُطرة اختفى فيها ضوء القمر والهدوء يملأ المكان سوى من صوت المطر الغزير الذي يرتطم بالسطوح ، مشى طويلاً في الرواق لينزل السلالم مُتوجهاً للطابق السفلي ومن ثم الى احدى الغرف المركونه في احد زوايا المنزل الكبير ، كان انيقاً مملوء بأثاث غالي الثمن وقديم الطراز ، ضخماً مقارنةً بحجم سكانه مما ادى الى هجران بعض غُرفه .
اخرج مفتاحاً من جيبه ثم مد يده ليُدير مقبض الباب وكان ليدخل لولا ان يد شخص ما خلفه لامست كتفه ليستدير جافلاً وبحركة سريعة اغلق الباب الذي كان ينوي فتحه للتو ونظر في عينيها المأساويتان لتبدأ حديثها بصوت مُتعب حزين : لا تقُل لي بأنك ستنام في تلك الغرفة هذه الليلة ايضاً ؟
تنهد قائلاً بلُطف : عزيزتي تعرفين طبيعة عملي وتعرفين ايضاً بأنني لا انام هنا بإرادتي
اشاحت ببصرها لتقول : بدأت اشك في ذلك
تغيرت نبرة صوته بشكل مفاجيء لتميل الى الغضب في حين صرّ على اسنانه وهو يقول : تشكين في ماذا ؟
صرخت تقاوم دموعها التي بدأت بالإنهمار من عينيها : انت تتجنبني !
انفجرت براكين غضبه ليصرخ فيها : اخبرتكِ مليارات المرات بأن لا تقربي باب هذه الغرفة والان تعصينني مرةً اخرى ؟
شدت قبضتها وطأطأت رأسها بحزن ثم قالت : لماذا تُغير الموضوع لمَ لاتريد التحدث عن الامر ؟ ، هذا يدعم صحة ما اقول .
لم تنتظر رده لأنها كانت تعلم بأن لا رد لديه ، حاولت العديد من المرات ان تفاتحه بالموضوع وتسمع منه الحقيقة التي كانت تحاول جاهدة دفنها ولن تتوقف حتى يخبرها هو بذلك لم تعد تطيق الامر
انتظر امام الباب بهدوء ينظر لها وهي تختفي في ثنايا ظلام المنزل وحين تأكد من رحيلها استدار ليفتح الباب ويدخل الغرفة كانت مُظلمة بدورها لولا انه قام بفتح الاضاءة ليَعمها الضوء ويُخرج مافيها من اسرار ، الاوساخ والاتربه تملؤها كان واضحاً بأنه مرت فترةً ليست بالقصيرة منذ اخر مرة تم تنطيفها وترتيبها ، كل اثاثها مملوء ببقع من الالوان المتعددة الانواع ، لم يكن فيها شيء ظل سليماً من تلك البقع ، يتوسطها مكتب اتخذت فيه الاوراق مسكننا لها لتنثر نفسها فيه وفي جهة اخرى من الغرفة يقبع ذلك المرسم كبير الحجم والمُتسخ بالألوان والحبر وبجواره صندوق مملوء بأنواع كثيرة من الفرش والاقلام وعديد من الالوان.
جلس على الكرسي امام مكتبه ومد بصره ليستقر على سطح الطاولة وبالتحديد على الرسومات الموضوعه عليه يطغى عليها اللون الاحمر الدموي راح يجول ببصره على تلك الرسومات الدموية مد يده لإحداها وقربها لناظره كانت لذلك المشهد من قصة فتاة الرماد عندما تقوم ابنة زوجة ابيها بإنتعال الحذاء محاولةً إدخاله في قدمها الكبيرة ، كان ليكون مشهداً مضحكاً وساخراً لولا انها قطعت اصابع قدمها لتُناسب مقاس الحذاء ، كانت رسمة في غاية الدقة والبراعة لكنها في الوقت نفسه دموية وبشعة.
رمى مابيده بعنف على الطاولة ثم قال بغيظ : ماكان علي قبول هذه المهمة .
ضحك بسخرية : بُلهاء جعلوا موهوباً مثلي يُفلت من ايديهم
جمع شتات الاوراق ووضعها فوق بعضها لتشكل ترتيباً معيناً يتناسب مع احداث القصة ثم وضعها بين غلافين واحكم اغلاقه بالأسيام ليُصبح لديه كتاب جديد وقصة جديدة يحكيها لأبنته في ليلة اخرى ، ستكون سعيدة بها
وضعه جانباً ونهض متوجهاً الى المرسم المُخفى بغطاء ابيض ، ازاح الغطاء عنه ولم يكن شيء قد تغير فقد كان وجه المرسم نظيفاً لم يمسه شيء ، جذب مقعداً قريباً منه وجلس عليه يحدق طويلا الى وجه المرسم الخالي ، مرت بضعة ساعات وهو في هذا الحال لم يتزحزح من مكانه بل ظل قابعاً في المقعد واضعاً باطن يده على ذقنه ، لترن الساعة الجدارية معلنةً قدوم منتصف الليل والتي بدت وكأنها قطعت حبل افكاره حيث تنهد مُعقداً حاجبيه وبدت خيبة الامل واضحة من خلال النظر في وجهه .
اعاد الغطاء على المرسم ولم يكن قد احرز اي تقدم ، استقام واقفاً والتقط معطفاً مرمياً على ارضية الغرفة المُتسخة ووضعه على ظهره في حين جلس على كرسي المكتب واحنى بظهره واضعاً رأسه على سطحه واغلق عينيه اللتان كانتا تنظران للمرسم الذي بدى كالشبح بسبب ذلك الغطاء .
لم يكن ليستيقظ في هذه الساعة الباكرة لولا ضجيج رنة هاتفه المزعجة ، كان المطر قد توقف لكن مازالت الغيوم الكثيفة تحجب ضوء الشمس من النفاذ خلال نافذة الغرفة الكئيبة .
راح يتحسس الاشياء حوله من غير ان يرفع رأسه من على الطاولة بحثاً عن هاتفه الذي ايقظه ، امسكه ورفع رأسه مُجيباً على المتصل بعد ان قرأ اسمه ، صمت منتظراً إياه ليبدأ الحديث
- مرحبا ؟
اجابه بالترحاب فأردف المُتصل : المعرض سيبدأ ليلة اليوم لذا فكرت بالإتصال بك في وقت باكر اسف ان كنت ايقظتك لكن اردت الاطمئنان عليك
لم ينتظر اجابه حيث باغته بسؤاله : اذا كيف تسري الامور ؟
اشاح ببصره ناحية المرسم الفارغ ليرد مُغتاظاً : لم ابدأ بعد
مما جعل المتصل يصيح بذعر : هل تمزح ؟!! ، الجميع ينتظر منك عملاً مميزاً وانت لم تبدأ بعد ؟ ، ارجوك اخبرني بأن تلك مزحة ثقيلة
- انا جاد
- اذا ماذا ستفعل ؟
- استطيع انهائها اليوم
تنهد المتصل بعدم ارتياح ثم اجابه : من الافضل لك ذلك ثم انهى الاتصال ، لم يأخذ وقتاً طويلاً حيث اخرج لوحة اخرى اصغر حجماً من تلك التي على المرسم ووضعها امامه على الطاولة ، اخذ مجموعةً من الالوان من الدرج الموجود اسفل ساقه وبدأ بتلطيخ اللوحة بها ، اعتادت رسوماته ان تكون من النوع المُظلم الغريب التي تمتلك فكرةً قد تبدو للناظر بلا معنى لكنها عكس ذلك ، فكل لوحةٍ من لوحاته التي تملأ هذا المنزل وتنتشر في ارجائه تحمل ذكرى بالنسبة له إما ان تكون سعيدة او حزينة لكن لن تستطيع تمييز السعيد والحزين منها فكلها بنفس النمط يطغى عليها اللون الاسود ويغشاها الغموض ، لكن مع ذلك يعد موهوباً وقد ذاع صيته لتلك الموهبة .
لم تمر سِوى دقائق حتى رمى مابيده من فرش والوان للطلاء وجفف يداه الملطختان بمنشفه اخرجها من درج اخر ، وترك اللوحة مستندة على الحائط لتجف ، نظر إليها نظرةً فاحصة ، كانت ستبدو لك من النظرة الاولى انها مجرد خربشات بلونٍ قاتم واخر احمر قانٍ لكن بعد تدقيق النظر ستجد ان ذلك اللون الاسود ليس إلا مجرد شعرٍ اسود لإمرأة بدى البؤس واضحاً من عينيها وذلك اللون الاحمر اتخذ مأخذاً من وجهها حيث غطى نصفه ، كانت امرأة مشوهة مُحترقة . رمى منشفته التي كان يُجفف بها لتغوص هي الاخرى مع الاغراض المرمية على الطاولة ، ما إن يخرج شيئاً من مكانه لا امل له ان يعود إليه في هذه الغرفة ، حان وقت خروجه من صومعته التي كان يحب البقاء فيها اكثر من أي مكان اخر في هذا المنزل وخارجه ، نظر لساعة الحائط ليجد عقاربها تستقر على التاسعة صباحاً ، خرج وعندما تأكد من احكام اغلاق الباب ووضع المفتاح في جيبه و انطلق يحوم في انحاء المنزل الذي مازالت الكثير من غرفة يسودها الظلام ، مر من خلال غرفة المعيشة السفلية ليصعد سلالم الطابق الثاني في حين بدأ المطر بالإنهمار غزيراً مرةً اخرى ، لم تكن الاجواء كأجواء التاسعة صباحا لذا نظر الى ساعةِ هاتفه يتأكد ان لم يكن قد اخطأ او ان الوقت مر سريعا وهو يصعد السلالم ، وقف امام باب صُبغ باللون الوردي تُغطية المُلصقات الطفولية البريئة ، فتحه بهدوء ثم فتح انارة الغرفة
- صغيرتي ؟
تقدم الى السرير الابيض ذو الغطاء المشابه للون باب الغرفة ونزعه و لا شيء تحته وفي الوقت ذاته جاء صوت هاديء من خلفه
- ابي
استدار ليجد ابنته ذات السبعة سنين تقف امام الباب تنظر له ليُجيبها : ماذا هناك ياصغيرتي ؟
- اخبرتني امي لمناداتك لتناول الإفطار معاً
تغيرت تقاسيم وجهه حيث بدى الضيق واضحاً عليه ، تقدم الى ابنته ووضع يده على رأسها يربت عليه : اخبري امك بأن والدك متعب ويريد ان ينام الان ، واخبريها بأني سآتي لاحقاً لتناول الغداء معاً
بدى ان الطفلة لم تقتنع بكلام والدها : لكن ..
رمقها بنظرته الحادة التي جعلتها تجفل وهو يقول بشيء من الغضب : من غير لكن !
لازمت الصمت وفضلت ان تكتفي بإيمائه عن قول شيء اخر متحاشيةً غضب والدها ونظرت فيه نظرةً اخيرة علّه يهم بقول شيء ما لكن السكون كان حديثه فغادرت خائبة الامل .
تحسس شيئاً ما كان قد وضع يده عليه والتقطه ، كانت جريدة كُتب عليها بخط كبير " اعتزال عازفة البيانو المعروفة ايستليس لأسباب غامضة "
قرأ تلك الكلمات بصعوبةٍ في عقله فهي قد اعادت له الكثيرمن الذكريات.
--
مشت الطفلة عبر ممرات المنزل الهائل ، كانت اشبه بنملة صغيرة تبحث عن الطعام مقارنةً به ، لا تعرف كيف تخبر امها بذلك ، والدها رفض طلبها كيف ستقابل امها ؟ ، هل ستصب جام غضبها عليها مرةً اخرى كما العادة ؟ ، كانت مترددةً تمشي بخطوات بطيئة وثقيلة ، تتمنى الّا تصل ابداً ، دخلت غرفة الطعام مطأطأةً رأسها وتسترق النظر لعيني امها الجالسة على احد مقاعد الطاولة الخشبية ذات النقوش الذهبية والتي نظرت بدورها الى ابنتها فعرفت حينها إجابة زوجها لكنها فضلت السؤال قبل القيام بأي شيء اخر : ماذا قال ؟
كانت الطفلة خائفة من الاجابة بل لاتدري بماذا تُجيب حاولت ترتيب تلك الكلمات المتناثرة في عقلها : قال انه سيأتي لتناول الغداء ...
لم تستطع اكمال كلماتها الراجفة بسبب صراخ الام المُفاجيء والذي صحبه صوت ارتطام الاواني على الارض لم تتوقف بل ظلت ترمي تلك الصحون الزجاجيه والملاعق والسكاكين على الارض غاضبة تصرخ وتبكي ، لم يكفيها ذلك حيث امسكت بكتفي الصغيرة بأقصى ماتملك من قوة وصاحت فيها : لماذا ؟؟؟! ، لماذا هل انا قبيحة لهذا الحد ؟ ، هل اصبحت قبيحة اجيبي !!
تجمعت الدموع في محجر عيني الطفلة تحاول ان تجعل الكلمات بصعوبة الخروج من فمها ، شعرت بأن كتفاها سيتمزقان من شدة ضغط الام عليها : لماذا لا تجيبين ؟! ، انتِ كذلك تعتقدين اني قبيحة جميعكم كذلك .
اخلت سبيلها اخيراً بعد ان تركت اثراً وغادرت والارض ترعد من مشيها العنيف عليها وغادرت الغرفة.
استطاعت الدموع ان تنساب على خدي الطفلة بعد ان احست بإبتعاد الخطر ، تتسائل ما ان كان والدها سيأتي حقاً لتناول الغداء ام انه سيختلق عذراً اخر وان لم يأتي هل ستثور والدتها من جديد وتؤلمها مجدداً ؟ ، نظرت للمرآة الكبيرة ذات البرواز الذهبي الذي يحيطها الى كتفيها اللذان بدآ ينزفان ، انها قد غرزت اظافرها الطويلة فيه لتُتسبب نزيفاً ، لم تهتم بل لم تتعب نفسها لإيقاف النزيف بل تركته هكذا يمتد الى اسفل ذراعها ، جلست في مقعدها الذي تركته قبل فترة من اجل ذهابها لإحضار والدها وتناولت مابقي سليماً من طعام على المائدة ، ثم نظفت الاطباق ومُخلفات والدتها المرمية على الارض ، كانت تريد اخفاء هذه الحادثة من الوجود ، لاترغب بأي دليل يشير بأنها قد حدثت.
--
- نعم ، نعم انتهيت منها سأُحضرها الليلة
كانت الساعة تشير الى الواحدة ظُهراً ولم يكن هناك أي احد لتناول الغداء في غرفة الطعام ، انهى المكالمة وهو ينظر الى المقاعد الفارغة ويرخي جسده بإرتياح ، احب حقيقة ان لا احد هنا ليأكل معه
الليلة سيكون معرض الفن الذي سيعرض فيه لوحته التي لم تكن افضل اعماله ، كان يفكر برسم لوحة افضل تُرضيه لكن الوقت لم يسانده وفي نفس الوقت لم يكن يُريد ان يعرض افضل اعماله في معرض تافه كهذا ، كان موقناً بأن لوحته العظيمة التي سيقوم برسمها تستحق افضل من عرضها في مجرد معرض للفنون .
صوت شخص ما كان يقوم بتغيير قنوات التلفاز يتسلل الى غرفة الطعام ، اوقف الشخص تغيير القنوات بعد ان وجد مايثير اهتمامه "تم إيجاد جثة اخرى افاد الطب الشرعي بأنها قد توفيت منذ اسبوع من الان ولم يُعثر عليها سوى هذه اللحظة ، الجثة كسابقاتها لأمرأة يتراوح عمرها مابين العشرين والثلاثين عاماً لكن هذه المرة كان سبب وفاتها نزيف في الساق مما ادى الى موتها و لا اثر للدماء مع ان القطع في الساق كان عميقاً ، فأين اختفت الدماء ؟ ، كما عودنا هذا القاتل فأساليب قتله تختلف .....
لم يكمل المذيع جمتله في حين اغلق الأب التلفاز بينما كانت ابنته تشاهد بتلهف : لا يُسمح للصغيرات بمُشاهدة هذه الاشياء
لطالما تسائلت لما لايسمح لها مشاهدة الاخبار بينما هو كل ليلة يقص لها قصصاً مشابهة لما تشاهده ، هوايتها الوحيدة التي تجعلها تشعر بتحسن هي مشاهدة معاناة الاخرين من خلال التلفاز او حتى من قِصص والدها فهي بتلك الطريقة تستطيع ان تعرف بأنها ليست الوحيدة التي تعاني في هذا العالم وان هناك اشخاص يعيشون حياةً مأساوية مثلها او اشد .
نهاية الجزء ..
المفضلات