اعتراف زائف
جمع رائد بين أصابعه، مسنداً مرفقيه على مكتبه الخشبي الأسود الذي يفصل بينه و بين الشاب أمير.
أمعن النظر في وجهه و هو يتأمل هيئته البسيطة التي لا توحي بأنه مجرم. بنطال أسود و قميص أبيض مقلم بخطوط طولية سوداء.
وجه منهك غطت أعراض التعب ملامحه، لكنها لم تفلح في إخفاء ذلك الطابع الخاص الذي يتكون لديك بالنظر في وجه أمير ذي الثلاثين عاماً.
له وجه طويل و عينان صافيتان ليس بهما غموض، بروز عظمتي خديه العاليتين يوحي للناظر بأنه شاب صبور مكافح؛ على الأقل هذا ما تراءى لرائد.
كان أمير ينظر للأسفل، يحاول جاهداً أن يحتفظ بهدوئه، ساخطاً على سكون هذا المحقق الذي كان يتأمله لفترة من الزمن بدون أن ينبس ببنت شفه. كان صمت رائد بغيضاً يجيد العبث بأعصاب أمير على مهل كما يفعل بقطع الشطرنج.
مرر رائد يده على ذقنه ثم أطلق نَفَساً مسموعاً جعل أمير يرفع رأسه و ينظر إليه منتظراً ما سيأتي بعد تلك التنهيدة.
كان يظن أنه سيأمر بتحويله إلى قسم النيابة العامة فلا بد أن التهمة قد ثبتت عليه الآن، و لكن المحير في الأمر أنه لم يتم تسجيل أقواله بعد.
زمّ رائد شفتيه بإحكام و حدق في أمير ثم خرج من صمته أخيراً: إذن أمير قاسم، تعترف بأنك قمت بالسطو على مصنع آزال الذي تحرسه، سرقت المال و قمت بطعن حارس الأمن ناصر الذي تعمل معه قبل هروبك؟
ابتلع أمير ريقه و أومأ برأسه: أجل.
- كيف فعلتَ ذلك؟
انفعل أمير غاضباً كان يريد أن يصرخ في وجه رائد و يقول له كفاك عبثاً بأعصابي، لكنه تراجع عن ذلك و اكتفى بقوله:
سيادة المحقق هل غايتك أن تجد المجرم أم أنك تحاول أن تشغل وقت فراغك بتحقيق لا طائل منه؟
رفع رائد أحد حاجبيه محتجاً و رد بحزم: غايتي الحقيقة يا أمير. و دعني أذكرك بأنني من يطرح الأسئلة هنا. أجب عن سؤالي دون مراوغة.
لم ينطق أمير لفترة مما جعل رائد يعيد صياغة سؤاله: اروِ لي ما حدث منذ دخولك إلى المصنع و حتى هروبك منه.
أغمض أمير عينيه محاولاً رسم صورة سريعة لما حدث تلك الليلة، و بعد تردد أجاب: كنتُ أحرس المصنع كعادتي، انتظرتُ انشغال ناصر ثم دخلت إلى مكتب السيد كامل. كسرت قفل الخزينة و أخذت المال، و عند خروجي باغتني ناصر، فقمت بطعنه.
أسند رائد ذقنه ذا الشعيرات القصيرة على قبضته و سأل: ثم ماذا ؟
لمح أمير نظرة الشك التي صوبها تجاهه رائد لكنه تجاهلها مجيباً: ثم هربت.
تسللت ابتسامة ذات مغزى وجه رائد حين صرح: هذا ليس ما قاله ناصر.
اعتلت الصدمة وجه أمير فجأة: ناصر أفاق؟ ما الذي قاله؟
- قال بأنك سمعت صوتاً و دخلت إلى المصنع لتتفقد ذلك الصوت بينما انتظرك خارجاً، بعد فترة أحس بشخص يركض في اتجاهه. حاول مباشرة الإمساك به إلا أن هذا الأخير قام بطعنه... بعدها فقد إحساسه بالمكان.
حوّل أمير ناظريه بعيداً متجنباً النظر في وجه رائد: كذبتُ عليه، تظاهرت بأنني سمعت صوتاً لا وجود له.
- و لكن أليس من الغباء أن تركض في الاتجاه الذي كان يقف فيه؟
- ارتبكت و لم أفكر حينها.
صمت رائد للحظة و كأنه يفكر بعمق ثم استأنف بعد همهمة: إذن قمتَ بطعنه؟
- أجل.
- كيف؟
- بسكين.
ابتسم رائد و كأنه استنتج شيئاً مسلياً الآن: في أي مكان من جسده؟
كان ارتباك أمير يزيد مع كل سؤال يطرحه رائد، بعد لحظات صمت أجاب: في صدره.
- في أي جهة؟
- لا أذكر.
- كم طعنة؟
- اثنتان ربما.
- أين وضعت المال المسروق؟
- في منزلي.
كانت إجاباته مقتضبة و كأنه يخشى أن يدخل في تفاصيل.
- أمير...
الطريقة التي ناداه بها رائد جعلته يجفل ليحدق به.
- كنت تحرس مصنع آزال لسبعة أعوام، عُرف عنك الأمانة و أداء عملك على أكمل وجه.
حتى هذه اللحظة لم يشك بك السيد كامل إلى أن جئت و اعترفت بنفسك. سمعت أنه كان رجلاً كريماً معك. ما الذي جعلك تسرقه؟
- احتجت للمال.
- من أجل ماذا ؟
- زواجي.
- لكن بقدومك و اعترافك أفسدت الأمر. ما فائدة ذلك إذن؟
- شعرت بالذنب.
-أنت تكذب.
بلغ السيل الزبى و كأن اتهام رائد له بالكذب قطع شعرة الصبر الأخيرة لديه، نهض عن مقعده في انفعال: طالما أنني أكذب فلا جدوى من استجوابي.
- اجلس.
نبرة رائد الآمرة جعلته يجلس مرغماً في تأفف، بينما وقف رائد و استدار حول مكتبه حتى أصبح أمام أمير في موضع يسمح لأمير بأن يلقي نظرة شاملة عليه بدءاً بحذائه البني اللامع مرورا بقامته الطويلة و انتهاء بقبعته التي تغطي شعره المتدرج بين الأسود و الشيب المبعثر في أنحاء متفرقة من رأسه.
اتخذ رائد من طاولة القهوة مقعداً له و هو يقول: هل تعرف يا أمير ما كنتُ لأركز على قضيتك بعد اعترافك و كنت سأحولك للنيابة العامة فوراً.
ما كنت سأهتم لأمرك لو لم أقابل السيدة أم سعد في حيّكم أثناء تحقيقي، هل تعرفها ؟
هز أمير رأسه في تذمر في حين تابع رائد: لقد راهنت بحياتها بأنك لم تفعل.
أمال أمير برأسه و نظر بعيداً مجدداً: إنها جارتنا و كانت صديقة مقربة لأمي لعلها لم تشأ أن تصدق ذلك.
عقد رائد ذراعيه على صدره: لا تفسيرها كان أكثر منطقية. لقد قالت لي بأنه عندما كنت في الثانية عشرة من عمرك لحقت بسيارتها سيراً مسافة ساعة حتى تعيد إليها قطعة نقدية أوقعتها، و كنت حينها في فقر مدقع لم تأكل لليلتين.
قال رائد عبارته الأخيرة و هو يرفع اصبعيه في وجه أمير.
تذكر أمير ذلك الحدث الذي مر عليه زمن طويل، كان السبب في نشوء علاقة ودية بين أم سعد و والدته، لم يتوقع أنها ما زالت تذكره.
أخرجه رائد من تأملاته حين تابع : أنا ببساطة لا أصدقك. و دعني أخبرك بعض الحقائق التي لا تعرفها...
نظر أمير في وجه رائد الذي كان يمرر يده على ذقنه و هو يتحدث: أولاً: طُعن ناصر بخنجر في صدره طعنة واحدة في الجهة الأعلى للقلب. ثانياً: المال الذي وجد في منزلك أقل من المال المسروق و لم يطابق السمات التي حددها السيد كامل، حيث كانت الرزم المالية المسروقة من فئة الألف ورقة في حين أن كل ما عثرنا عليه في منزلك كان بين فئتي المائة و الخمسمائة ورقة. و قد أخبرتني أختك أنك كنت تجمع هذا المال على مدار أعوام من أجل زواجك المقرر في الشهر القادم. ثالثاً: أكد ناصر بأنك لستَ من طعنه. رابعاً: تسلل المجرم إلى المصنع لم يكن من بوابته الأمامية كما زعمت، فقد تسلل من إحدى النوافذ الخلفية بعد كسرها رُفعت البصمات عنها و هي لا تتطابق بصماتك. الآن أريد أن أعرف على من تتستر؟
تمسك أمير بموقفه : لا أتستر على أحد. لقد وجدتم آثار بصماتي على الخزينة و اعترفت بجرمي و قلت كل ما لدي. لي حق الالتزام بالصمت الآن.
تجاهل رائد انفعال أمير و تابع الدق على الوتر الحساس لديه حيث غيّر الموضوع بطريقة أثارت خلاياه العصبية: عرفت أنك لم تلتحق بمدرسة من قبل.
و أنك عملت منذ طفولتك في أعمال مختلفة...
و بدأ رائد يعدد الأعمال التي قام بها أمير في صغره و هو يرفع في كل مرة اصبعاً من أصابع يده اليسرى: منظف سيارات ... بائع محارم... خباز ... سائق... حارس أمن... لم تتجه لعمل يخالف القانون من قبل.
- الإنسان يتغير.
- صحيح تحت ضغط الظروف قد يتغير، لكنك صمدت في وجه ظروف قاهرة و أنت فتى صغير. فمثلاً لم تدخل عالم الجريمة عندما تغرّب والدك، مرضت والدتك ثم توفاها الله، أخوتك...
قاطعه أمير بنبرة صارمة و هو يشد قبضته في قهر مكبوت: كفى! أعدني إلى زنزانتي.
تأمل رائد في أمير للحظات كانت قبضته تهتز بشكل ملحوظ.
أصبح على يقين بأن هذا الشاب يخفي أمراً لكنه لم يستطع تحديد ما هيته. استدعى أحد الحراس و أمره بأن يعيد أمير إلى الحجز.
<><><><><>
بعد ثلاثة أيام...
تم إحضار أمير إلى غرفة المحقق رائد، و ما إن وقعت عيناه على طيف نور الجالسة في انتظار قدومه حتى هب إليها بسرعة البرق صارخاً: ما الذي تفعلينه هنا ؟
وقفت نور من فورها و قالت هي تشد حجابها حول رأسها متلعثمة: أمير...جئت...لـ ...جئت لأراك.
و حتى يجنبها رائد مواجهة كل هذا الحرج الذي ارتسم على وجهها في حضوره. وقف و ألقى نظرة على الساعة على معصمه و هو يقول: سأعود بعد نصف ساعة.
انتظر الاثنان خروج رائد، و بعد مغادرته جلس كل منهما مقابلاً للآخر، و نطق أمير و لكن في نبرة هادئة هذه المرة: ألم أطلب منكِ ألا تأتي إلى هنا مهما حدث؟
طأطأت رأسها مجيبة: أعرف أنك لا تريد رؤيتي و ذاك شأنك. أما أنا فأريد أن أراك و أريد تفسيراً لما قمت به.
لم يخفى عليه صوتها المتحشرج إثر صدى الصوت المكبوت في صدرها، تجنب النظر في وجهها فهو يعلم أن دموعها تجعله يضعف.
- نور، عودي إلى المنزل الآن.
- ليس قبل أن تخبرني. ما هذا الذي فعلته بك و بنا ؟
كانت تعرف أنه أعند من أن يبوح لها بسره، فما كان منها سوى أن تجرب استفزاز مشاعره.
أدخلت يدها في حقيبة يدها الزرقاء باحثة بين أشيائها عن شيء ما، حتى التقطته أخيراً و صفقت به على الطاولة الصغيرة أمامه.
لمحة واحدة من أمير على ذلك الخاتم كانت كفيلة بأن يعرفه. نظر في وجه نور منتظراً منها أن تفسر له.
- فسخ حسن خطبتك بابنته!
تعلقت عيناه بالخاتم اللامع على الطاولة و استحوذ عليه الصمت مجدداً. كان هذا موجعاً، انهار حلم آخر أمام عينيه.
- هل أنت سعيد الآن؟
حتى لو لم يعترف بألمه ارتسمت ملامح الوجع على وجهه بجلاء. و أدركت نور أنه يكافح لإخفاء ذلك لكنه أخفق.
وضعت يدها على يده محاولة كبت دموعها: أمير، لماذا فعلت ذلك؟ أعرف أنك لم تسرق، ما الذي يدور برأسك؟ لماذا اعترفت بجرمٍ لم تفعله؟
انسلت يده من تحت يد نور بهدوء، مسح على عينيه بتعب و زفر قائلاً: عودي إلى المنزل يا نور، اهتمي بأمجد و لمى و كأن شيئاً لم يحدث.
أثارها بعدم اكتراثه، لا يدرك كم تتألم لأجله. كان أمير بمثابة الأب الذي احتواها، لم تكن لتقبل بأن تتخلى عنه بهذه السهولة لمجرد أنه طلب ذلك.
انفجرت غاضبة: ما الذي جعلك عديم الإحساس هكذا ؟ لماذا أشعر بأن الشخص الجالس أمامي الآن ليس أخي. ليس أمير الذي أعرفه.
بدا لأمير لوهلة بأنه أيضاً لم يعد يعرف نفسه. ما حدث تلك الليلة كان صدمة لم يتوقعها و لم يحسب لها حساباً.
لقد كان يريد أن يهرب و في نظره كانت هذه أقصر وسيلة للهرب.
احتضن رأسه بين يديه و تمتم فيما يشبه الهمس: عودي إلى المنزل يا نور، أرجوكِ.
<><><><><><>
بعد مرور أسبوعين...
وقف أمير أمام مكتب رائد، أصبح هذا الروتين مملاً بالنسبة له، حفظ شكل هذا المكتب و تفاصيل أثاثه بدءاً بالنافذتين الوحيدتين في الغرفة مروراً بجدرانه الرمادية و انتهاء بتلك المروحة المعلقة في السقف و صريرها المزعج بين الفينة و الأخرى. حتى تقاسيم وجه رائد حُفرت في ذاكرته عن ظهر قلب و لو طلب منه أحد أن يرسم وجهه و هو مغمض العينين لفعل.
انتظر للحظات حتى يحظى باهتمام رائد الذي كان منهمكاً بتدوين بضعة أسطر في ملفه.
و أخيراً ألقى عليه نظرة سريعة و ابتسم في وجهه قائلاً: أمير قاسم، أنت حر الآن، لقد ثبتت براءتك.
لم يكن أمير ليصدق ما سمعه، ظن أن رائد يتلاعب به، اقترب من المكتب خطوة و انحنى متكئاً عليه: ما الذي تعنيه؟
اتسعت ابتسامة رائد: أعني أنني لا أريد رؤية وجهك في مكتبي بعد الآن.
رفع أمير حاجبه متسائلاً: هل تمزح؟
- لا، لا أجيد المزاح. لقد تم الإفراج عنك.
انشغل رائد مرة أخرى بملفه مستشعراً نظرات أمير التي تكاد أن تفترسه: كيف تم الإفراج عني؟
صوّب رائد ناظريه تجاه أمير قائلاً: تم القبض على المجرم، بعد رفع البصمات قمنا بمطابقتها على بصمات المجرمين الذين لديهم سوابق في السرقة؛ و لحسن الحظ كان المجرم واحداً منهم سبق الإفراج عنه قبل تسعة أشهر.
تسمر أمير في مكانه و كأنه صُعق: لديه سوابق؟
أومأ له رائد إيجاباً، فلم يتمالك أمير نفسه، تراجع خطوة إلى الخلف و هوى بجسده على المقعد الموضوع خلفه.
غطى وجهه بيده محاولاً اخفاء التعابير التي اعتلت وجهه بينما وضع رائد الملف الذي بين يديه جانباً و قال له: قاسم أمير وجدي، هو والدك؟
أخذ أمير يمسح على عينيه مراراً. هز رأسه تلقائياً أكثر من مرة منكسراً.
تفادى النظر في وجه المحقق الذي سأله: لهذا كنت تحاول حمايته؟
تنحنح محاولاً تصفية صوته، و جاهد ليخرجه ثابتاً لكنه لم يفلح. كان الارتعاش واضحاً في صوته الذي هيمنت عليه خيبة الأمل:
- بل كنت أحاول حماية نفسي، كنت أنأ بنفسي عن الآخرين؛ ضقت ذرعاً بتهكماتهم، سأمتُ إشارتهم لي بأنني ابن رجل جبان هارب. لم أكن في أعينهم سوى أبي الذي هجرنا و سافر إلى المجهول على حين غرة. ثمانية عشر عاماً عانيت فيها بما يكفي لأشيّد الحاضر الذي قد يشغلهم عن ماضي أبي. كنتُ أريد لتنبؤاتهم أن لا تثبت صحتها...
تعاطف رائد كلياً مع أمير و أكد له: لن نقوم بكشف هويته إن كان هذا ما تخشاه.
خانته قدرة تحمله و انسابت دمعة من عينه، أسرع في إزالتها و استدرك: و أنا ؟! من ذا الذي سيخفي الحقيقة عني؟
ثم ابتسم بين أحزانه متهكماً: كنتُ أريد أن أصدق أنه تغيّر و أنني ابن رجل شريف هاجر لأجلنا و سيعود إلينا يوماً... كنت أحلم بعودته كبطل، ها قد عاد ليثبت لي أنني كنت أحمق!
تمت
المفضلات