السلام عليكم
توقَّف
مشى وحيدًا مطأطئ الرأس متأملًا الحجارة في الشارع بعد يومِ عملٍ شاقٍ كالعادة،
وقد استُهلك جسديًا ونفسيًا من شدة التعب والضغط الجاثم على صدره،
وبينما كان مستغرقًا في أفكاره جاءه صوتٌ -مليءٌ بالحيوية ويعرفه جيدًا- من خلفه: هَي! هل تركت العالم وراءك؟
لم يلتفت إلى صاحب السؤال، ولكنه تنهد بقوة متحسرًا، ثم قال:
لم أترك شيئًا ورائي. أنا شخصٌ اعتاد على تحمل مسؤولياته فوق كتفيه، ومسؤوليات الآخرين أيضًا!
رد الشخص الآخر باندفاع ضاحك: هاه، أنظر إلى نفسك كيف تتكلم!
ثم غير صوته هازئًا: أتحمل مسؤولياتي ومسؤوليات الآخرين فوق كتفَي!
توقف عن تغيير صوته وأكمل: ياللسخف! أنت لا تتحمل مسؤولياتك الشخصية أيها المغفل،
وتلقي بها دائمًا -مهما كانت تافهة- فوق أكتاف الآخرين!
تنهد المقصود مرة أخرى بقوة أكبر وقد بدا الأسى على وجهه،
وكرر بإصرار ورنة استعطافٍ متعمَّدة ظهرت في صوته: لا شيء ورائي.
رد الآخر بسخرية: طبعًا لا شيء وراءك، فأنت وراء الجميع. العالم كله والناس كلهم متقدمون عليك؛
أما أنتَ إن التفت يومًا إلى الخلف فلن تجد إلا نفسك!
تجاهل الرجل ذلك الكلام متظاهرًا بأنه لم يسمع،
فسحب -فجأة- منديلًا ورقيًا من على الأرض وقال مدعيًا البلاهة: ما الذي أتى بهذا هنا ؟
صفق الآخر ببطء وصاح: ياسلام! أتظن بأن ادعاءك بعدم سماع ما يوجعك يُضعف المتكلم ويعطيك القوة وكأن الإهانة لم تصلك؟
قد يفيد هذا التصرف شخصًا آخر.. شخصًا قويًا بالفعل..
شخصًا لا يهتم بكلام الآخرين لأنه على يقين بأن كلامهم لا يُنقص من قيمته الحقيقية،
ولكن صدقني، هذا التصرف لا ينفع معك ولا يليق بك أبدًا أبدًا!
كان الرجل يستمر بتجاهل الكلام متشاغلًا بالمنديل الورقي،
فتلفت راسمًا على ملامحه برودًا غير حقيقي متظاهرًا بأنه يبحث عن سلة قمامة رغم علمه بعدم وجود واحدةِ في ذلك المكان،
وكان أثناء ذلك يحرص على إعطاء ظهره للشاب الذي يهاجمه كأنه ليس موجودًا،
وحينما انتهي الشاب من قذائفه قال مخاطبًا نفسه بصوت مسموع: سأغادر لأن عليّ أن أرمي هذا المنديل.
ثم غادر بالفعل ومشاعر قهرٍ وذلٍ تتلاطم في داخله، وقناع البرود ما زال مرتسمًا على وجهه.
تنهد الشاب هذه المرة، وهز رأسه يمينًا ويسارًا في رثاء، ورفع صوته كي يسمعه الرجل المغادر قائلًا:
أجل، أجل. ارمِ المنديل، وارمِ معه أشياء أخرى!
سرح بأفكاره حينما كان جالسًا في مكتبه خلال ساعة الاستراحة، ورفع إحدى الأوراق من مكتبه الفوضوي كي يستطلع ما فيها،
فوجدها قديمةً وكان يجب ان تُرمى منذ دهر، فراوده شعور بالضيق، ثم سمع صوتًا مألوفًا يسأله بغتةً:
هَي، هل تركتَ العالم وراءك؟
أجبر نفسه على الابتسام دون النظر إلى محدّثه، ورد مدعيًا المرح: أنتَ حقًا غريب! كيف يمكن أن يُرمى العالم؟!
ثم هز رأسه لليمين واليسار متضاحكًا بينما الآخر يرمقه باستخفاف: أتحاول إهانتي بادعاء الغباء؟
أقول لك مرة أخرى:من الممكن أن ينفع هذا التصرف مع شخصٍ ذو قوة حقيقية، ولكن ليس معك أنت!
رمشت عينا الرجل عدة مرات بسرعة وابتسم أكثر، و واصل سكوته متشاغلًا بالورقة كما لو كان مركزًا على قراءتها،
ورغم أنه لم يلتفت بوجهه للشاب إلا أن الأخير قال: لماذا ترمش بهذه الطريقة؟
هل هذه ردة فعلك نتيجة شعورك بالإحراج الشديد أم هي مقاومة لرغبتك في البكاء؟
ضيق الرجل عينيه وتمتم بكلمات مواصلًا ادعاءه في القراءة، فقال الشاب: حسنًا، حسنًا! سأتركك الآن كي تبكي على راحتك.
اختفى الشاب، فألقى الرجل الورقة بانفعال وقد احمرت عيناه ولمعتا نتيجة اجتماع الدموع،
ولكنه كتمها بقوة وكأنه يحافظ على بقايا كبريائه.
في أحد الأيام عاد إلى بيته وقد استشعر ثقلًا جديدًا لم يفهم سببه،
والشعور بأنه كان يجب عليه أن يشعر بالفرح -في ذلك اليوم بالتحديد- زاده همًا على هم.
- هل تركتَ العالم وراءك؟
فرك الرجل يديه بقوة متشاغلًا بنقل بصره من ركنٍ لآخر من أركان الصالة كأنه يراهها لأول مرة، وقال:
أما تعبت من تكرار هذا السؤال؟ ألا تشعر بالملل وأنت تطرح الموضوع نفسه كل مرة؟
تثاء بالشاب، ورد: إن كان الأمر هكذا فأنت أكثر الناس إثارة للضجر!
سأل الرجل وعيناه ما زالتا في رحلتهما: ما الذي قلته؟ لم أسمعك!
أجاب الشاب بسخرية: بل سمعتني جيدًا، وكفاك ادعاءً للقوة بينما أنتَ تتحطم إلى أشلاء
فحتى ضعيفوا البصر يرون حطام أشلاءك دون الحاجة إلى ارتداء نظارة!
قفز الرجل فجأة ورفع من إحدى الطاولات ساعة قديمة كانت غير واضحة بسبب تراكم الأشياء أمامها:
آه! ساعتي القديمة! كنتُ أبحث عنها.. منذ متى وهي هنا ؟
ابتسم الشاب بسخرية أكبر ورد مادًا الحروف في النطق: إنهـــا هنـــا منذ زمن بعيـــد يُماثل زمن عبوديتك،
وأنت تعرف بوجودها ولكنك كنت تتجاهلها كما يتجاهلك الجميع،
فلا الساعة تعمل لانتهاء بطاريتها ولا أنت تثير اهتمام أحد إلا بدافع الشفقة
لأن شيئًا فيك قد توقف عن العمل.. أيكون ذاك الشيءُ عقلك؟!
تجاهل السؤال الأخير وأجاب بينما كان يعبث بدقةٍ في الساعة:
غير صحيح، فأنا مجدٌ في عملي والكل يحترموني، فكيف قاموا بترقيتي اليوم لأكون رئيس قسمي إذن؟
رفع الشاب حاجبيه بدهشةٍ مصطنعة: تسأل كيف قاموا بترقيتك؟
إنها ببساطةٍ نتيجة سنوات العبودية الطويلة التي ما تعبتَ من تكرارها
رغم أن كل زملائك ذوي العقل السليم فروا بحياتهم ما إن توفرت لهم فرص عملٍ أخرى،
وبقيتَ أنتَ كي تثبتَ لنفسك بأنك المسكين المظلوم الذي يستحق جائزة نوبل للتعاسة.
كان الرجل أثناء ذلك الكلام قد أخرج بعض البطاريات و وضعها في الساعة، ثم هتف: هذا رائع! إنها تعمل!
سكت الشاب للحظات متأملًا رفيقه، ثم قال: رائع بالفعل! أفضل من عقول بعض الناس!
واختفى بينما أكمل الرجل العبث في الساعة كأنه يحاول إقناع نفسه بأن اهتمامه بها حقيقي وليس تهربًا.
- لماذا فعلتَ هذا ؟
كان السؤال مباشرًا وحازمًا وفيه اتهامٌ ولومٌ واضحان.
سأل الرجل بينما كان يتنقل بين محطات التلفاز بتتابع مدعيًا عدم الاكتراث: عن ماذا تتحدث بالضبط؟
قال الشاب بحدة: بل تعرف تمامًا! لماذا ؟لماذا أهنتَ الرجل بتلك الطريقة؟
أطفأ التلفاز ورد بنبرة لا مبالاة: لقد اخطأ ، و واجبي كرئيسٍ للقسم أن أنبهه على أخطائه. لم يكن الأمر بيدي!
رفع الشاب صوته الشاب بغضب: لو أنك شرحتَ له المطلوب منه بوضوح - أيها الرئيس الحاذق - لما ارتكب ذلك الخطأ البسيط،
ثم أن غلطته كانت تافهةً ولا تستلزم منك كل تلك الإهانات التي ألقيتها عليه.
أشاح الرجل برأسه يسارًا وسأل مستنكرًا مع نبرة استعطافٍ رقيقةٍ مصطنعة: وماذاعليّ أنْ أفعل إذن؟
أن أترك الموظفين في قسمي يعملون على هواهم دون أن أصحح أخطاءهم إلى أن يضيع العمل هباءً؟
وتنهد بحسرة بدت للشاب كما لو كان يقول: "يالي من مسكين!" فصرخ وقد فقد أعصابه:
توقف! لا تمثل دور المظلوم أمامي فأنا أعرفك جيدًا يا صغيرَ العقل!
ابتلع الرجل ريقه بصعوبة، ففي الحقيقة كان فزعًا جدًا فهو يعرف تمام المعرفة لأي درجةٍ قد يهينه الشاب،
ولكنه رغم ذلك ثبت عينيه على الجدار يساره ثم قال محاولًا التحدث بحزم،
ولكن حزمه خرج رقيقًا صغيرًا -بسبب الخوف- رغم وضوح وجوده: يجب أن يتعلم الموظفون أن يعملوا بطريقةٍ صحيحة،
وإن كان أحدهم أضعف من أن يتحمل مسؤولية هذا العمل فليبحث إذن عن عملٍ آخر.
صاح الشاب مهاجمًا: هو ليس أضعف من تحمل المسؤولية، ولكنك هاجمته لأنك تظن بأن كونك رئيسًا عليه يجعله أضعف منك،
فأنت ضعيفٌ وجبان، وأنتَ تعرف ذلك جيدًا، صح؟ لقد هاجمته مستغلًا موقعك، صح؟
التزم الرجل بالصمت بينما انتظر الشاب إجابة، ولم يطل انتظاره، فقد فهم أن الرجل يتجاهله،
فما كان منه إلا أن أخذ نفسًا قويًا فرّغ فيه جزءًا من غضبه،
ثم تحول إلى أسلوب الاستهزاء والهجوم -كعادته- كي يفرغ ما تبقى من غضب: أتعلم؟ إنه ليس أضعف منك،
ولكنه يحتاج إلى هذه الوظيفة كثيرًا.. هذا هو السبب الذي جعله يسكت على إهانات أحمق مثلك،
وأنتَ استغللت فقره وحاجته كي تفرد عضلات لسانك عليه كما يفعل رؤساؤك معك.
بل كما يفعل جميع الناس معك، ولكنه ليس أضعف منك.. تذكر هذا جيدًا!
مرت لحظات صمتٍ قصيرة قبل أن يسأل الشابُ بإرهاق: ألن تترك العالم وراءك؟
لما ساد الصمت من جديد وطال بينما بقي الرجل دون حراك، فهم أن رفيقه قد غادر،
فشغل التلفاز وبدأ يتابع باذلًا جهده كي يركزعلى ما يراه.
الرجاء عدم الرد
المفضلات