التفاؤل الذي يشعر به الآن، جاء بعد أن انحلت عقدة من عقد حياته الوظيفية ظن انها لا تحل ابدا.
وكذا... فإن استمتاعه بهذا التفاؤل دفعه ليسير في عصر هذا اليوم لملاقاة حبيبته... باب جنته.
*****
مر على احد الأسواق الشعبية ليأتي لها بما يحلي به فمها ، فوزن عند بائع الحلوى الشعبية قليل مما تشتهيه غاليته، وكان له ان يستكثر لولا خوفه على صحتها.
دخل عليها بعد أن استقبلته خادمتها متهلل الوجه يريد أن يبادرها بالسعادة قبل أن تملا عينيه بفرحتها بما اتاها به ، فوجد عندها خالته وكان قد مضى زمن منذ لقاؤهما فحيته وحياها وازداد سروره ففاضت سعادة امه بما لا يسعه المكان ولكن تحمله القلوب.
جلس متكأً منشرح الصدر يبادل سيدتي الفؤاد بكل صنف من عذب الكلام، و استعلم من خالته عن كل خبر يدركه لسانها فيجيبه في نفس الوقت و اللحظة... وإذ احس بالفتور يتسلل إلى احاديثهم هدر بصوت يخرج من صدره :
_ كنتما تتحدثان قبل أن أدخل عليكما في أمر ما ؛ فلما دخلت قطعتماه والان بعد أن اعلمتني مشكورة بكل أحوال الاهل والاحباب أرى أن تكملي (السالفة) فقد مضى وقت منذ رأيت امي مهتمة بحديث واخشى انكما تنتظراني لأذهب حتى تكملاها!
وجال بعينيه نصف المغمضتين في وجههما الذي ما زادته تجاعيد الزمان الا حبا في قلبه وغلاة.
تبادلت الاختان نظرات نسائية فما كان من أمه الا زفرت تنهيدة وهي تفتح كفيها كمن لا حيلة له :
_ والله يا محبوبي الغالي ما كنا نتحدث الا في أمور الخطبة والزواج؛ فقد حضرت خالتك لقاء ما وحدث ان سمعت ما سمعته...
وانهت كلامها على عجالة تريد أن تثبت له سلامة موقفها من قراره بترك الزواج ، فتبسم لها ونقل عينيه إلى خالته و ينقل ابتسامته على الجانب وهو يقلب في مسبحته :
_ أراني اليوم متفائل فلا امانع الاستماع إلى بقية سالفتك فلعلي اضحك قليلا او أجد فيه ما يثير اهتمامي.
وضحك مسروراً لضحكاتهما الساخرة وكأنه يدعوهما ليشاركنه لعبة قد خسرتاها مع انفصالاته الماضية . وكأنه يتوق لربح جديد وهو يشرح لهما كيف ان الوقت اختلف والخلق فسد والزواج مشروع على شفا جرف هار.
توهجت عينيه وخالته تسرد له عن بدايات اللقاء الذي ذهبت اليه وتحكي له عما سمعته ، ثم يجيبها "اه النساء تبذل مزيد من الجهود لمحاربة العنوسة". وكلما ناكفها بجملته هذه ومشتقاتها زادت في تزيين قولها والتوسع في سردها، فكان يمدد ساقيه في جلسته وكأنه في جلسة سمر، وكانت تحرك يديها وكأنها في محاضرة ، فلا يزيد عن ان يرفع حاجبه او يمط شفتيه وهي لا تكتفي عن إعادة الكلام حتى غشي على امه لفرط ما ضحكت.
_ كلام في كلام يا خالتي وعندما يجد الجد ويأتي وقت الزواج الحق تقلب هذه المرأة كل كلامها وتسأل عن حقوقها المادية.
_ يا ولدي لا اخالفك في قولك فما خسرته انت خسر مثله شباب العائلة الباقين، ولا ادعي ان بنات هذا الزمان كمثل زماننا تستحق هذا الإنفاق.
ولكن... ما اسعدني في هذا اللقاء الا امرأة قامت في ختام الندوة فقالت كلام أعجبني وطرب له قلبي.
وضع هو فنجانه أرضاً ثم مال نحوها و زفر :
_ فلماذا كل ما مضى من كلام... هاتي هذا الذي طرب له قلبك.
وعاد يعتدل في جلوسه بعد أن قبّل يد امه التي كانت تناوله فنجانه وقد صبت فيه القهوة.
_ الحقيقة فكرت في خطبتها لفلان وجئت استشير اختي في هذا، وكنت احب ان يعدد بها احد أولادي لولا خوفي من فساد حياتهم بسخط زوجاتهم.
_ اسمحي لي... عبيد النساء لا عتق لهن.
ولولا ان خالته هزت راسها توافقه لذهبت شهقة امه بعقلها، الا انها لما رأت اختها توافقه سكنت وامسكت بيد اختها التي امعنت النظر في وجهه وقالت له بمكر لا خبث فيه :
_ وكنت سأقول لأمك انها امرأة لا تليق الا برجل مثلك.
ورفعت حاجبيها لترمي امه بنظرة "حسنا وقلتها".
اما هو فقد جلس قائما كمن يريد أن يهم بالنهوض ومد يده يرفع شماغه بخبرة :
_ تتفقان علي.
أمسكت به جنته وقالت له دون أن ترجوه :
_ هي قالت إنها كانت ستقول لكنها كانت تستشيرني في الذهاب لزيارتها لان فلان انت تعرف كيف هن حريم بيته!
و زادت خالته و عيناها تضحكان :
_ خير العارفين.
قهقه وهو يستقيم معتدلاً ليضع الشماغ فوق هامته ثم عاد ليجلس بعد أن عدل هندامه...
_ طيب بما انك قررتي ان تخطبيها لي اولاً قبل أن تفكري بفلان او غيره، اخبريني كيف تبدو؟
_ نظيفة
رفع حاجبيه وابتسم ابتسامة واسعة قبل أن يضحك منتعشاً
_ نظيفة!
_ نعم... لديها مظهر نظيف.
المفضلات