مَا خَلفَ الزِنزانَةِ..
صباحٌ جديد يستقبل جسده المتهالك في الزنزانة الكئيبة، نُوره يتسلل عبر الشقوق المتعرجة بالجدار، التي لولاها ما عَرِف النهار من الليل، ولا الشروق منهُ أو الغروب..
لم ينم الليلة بطولها ولم تنعم عينيه بنوم هادئ يُنسيه مرارة جروحه، بل إن ثرثرة ذاكرته أزعجته بالفترة التي كان فيها مُستيقظاً يرجو أن ترف له عين، أن ينام حتى يتخلص من إرهاقه، لكن الأماني تظل معلقة في السماء لاتصل حتى تُردُّ إليه خائبة.
عَلِمَ أخيراً بأن الألم الذي تتلقاه إيما لم يكن بالأمر السهل، ليست مجرد سخافة أو ضعفٍ منها... لكنه أمرٌ واقعي تتصدى لهُ بصدرها حتى تتكدر منه.
هذا العجز المتكالب عليه.. أهلك ما تبقى من قوة دِفاعه، مُهدداً إياه بيوم قاتم لا يستطيع أن يرى فيه نوراً يشع من جنباته، يومٌ أسود كأرضه التي لم يطل عليها شعاع الشمس.
تنهد بألم..
كم غريبة هي الحياة... ترمينا على هامشها إن انتهت صلاحيتنا، ولا تبالي بآلامنا..
غريبون نحنُ البشر.. ما كان مُهملاً بالمشاعر بالأمس صار أكثر ما يُوجعنا اليوم..
كان هذا الجسد بالأمس يتحرك، يمشي، يتنفس،
هذا القلب كان ينبض بحيوية.. يتدفق بالحُب والطمأنينة لكنه صار مُهشماً، مُلوث بالكراهية والقسوة..
كم هو مؤلم أن تفقد نفسك فلا تجدها، تجد وحدتك تؤانسك ولا مؤنس لك..
تغرق في المآسي ولا أحد يُنجدك، تبكي وتبكي حتى تجف دموعك..
وفوقَ هذا تحمل فوقَ آلامك آلام شخصٍ آخر عِوضاً عنه، تتلقى عذابه، تبكي عنه..
تتلوى في مخاض الروح، فتهرب حتى تدمي قدماك..
هو بحاجة لأن يجد حياةً تفتح له أذرعها، لا حياةً كالجحيم يحترق فيها..
لكن دوماً تكمل الحياة مسيرتها دون أن تصغي له.. دوماً كان هذا حُلمه الذي لم يتحقق..
وفي قمة الضعف الذي تفشى فيه بعد إضرابه عن الأكل والنوم أو حتى الشرب، أغمض عينه رغم معرفته أنه لن يرتاح، لكنه أراد أن يهرب إلى أعماقه...
بكى حينها دمعاً ولم يدري لِمَا البكاء ، لربما كان في اعتقاده أن في بكائه دواء!
أخذ الدمع يتسارع بتبليل خده، ونياط قلبه يتمزق.
( تنويه: * خيال مُتخيّل يحدث داخل عقله * )
في خضم بكائه الصامت، تفجرت الأنوار من حوله مُبددةً ظلامه... كان حلوله المفاجئ أشبه بقدوم الفجر مع إشراقة شمس النهار، كان منكباً على نفسه يضم ركبتيه إلى صدره فرفع عينه ليرى سببَ تغيّر الدُنيا من حوله، رنا بصره إلى النور فلم يجد شيئاً معه، التفت قليلاً برأسه حين شعر بظهر شخص يلتصق بظهره، جالساً بنفس وضعيته، مسح دموعه بكفه ثم رفع رأسه إلى الأعلى قليلاً، وهمس بكلام ممتزج بحشرجته:
" ما أصعب أن تعيشَ وحيداً"
بكى الشخص الآخر بهدوء وهو يبتسم ابتسامة حزينة، كأن خيطاً يمتد بينهما لا ينقطع. كِلاهُما كان يشعر بالآخر لكن لا أحد يُفصح، كان هُو يتحدث بصدق وهي تعلم صحة ذلك، تعلم يقيناً بأنه لم يعد يُطِق.. لا أحد يتقبله، لا أحد سيؤنسه غيرها.. لذلك هو يلجأ إليها إن ضاقت به الحياة، وأغلقت أبوابها في وجهه.
هي.. كانت تحن عليه، تفهمه دون أن يتحدث، شهقاته التي يخرجها مع حديثه شرحت لها جُل الأمر.. لذلك لم تحتاج أن تسأله عن خطبه.
" لطالما نهرتني عن البكاء يا دانيال، أخبرتني ألاّ أضعف. وهأنا أصبحتُ قوية، لا تبكي أنتَ أيضاً"
ابتسم ابتسامة فاترة فيها من الألم ما فيها، وقال بصوت مرهق ومتقطع:
" لقد تعبت، تعبت فحسب"
"أنتَ قوي، لكن القوة لا تدوم حتى مماتك، قد تفتر أحياناً، قد تسقط، وتتعثر..
لكن إن نهضت ستنسى ألم السقوط"
التف عنقه تلقائياً حين سَمِع ذلك الصوت الذي بعث فيه الطمأنينة، فزاده بُكاءً حين لم يتوقع ذاك الكلام من هذا الشخص الذي يكرهه، شعرت بارتعاشه من خلفها فأرغمت نفسها على عدم الالتفات واتسعت الابتسامة في وجهها..
قامت عن الأرض بعد أن أرهقها بكاؤه، وأخذت تنظر إلى المساحات الشاسعة المظلمة والبقعة الوحيدة المنيرة اللذان كانا قابعين فيها، أطلت من حدقتيها نظرة متعمقة التأمل، وافترت من شفتيها بسمة متألمة.
" نحنُ نبقى منطفئين حتى نُضاء ، دانيال..
الظلام مهما طال فإنه ينقضي"
مسح وجهه بكفيه ونهض هو الآخر دون أن يُدير ظهره إليها، وقال مبتسماً:
" أستطيع أن أرتاح الآن"
تساءلت:
" سترحل؟"
لاحظ بحة الحزن التي تخللت صوتها فالتفت إليها مستغرباً علّه يتأكد من تعابيرها، لكنه لم يتمكن من رؤيتها، أجاب:
" لم يعد لدي سببٌ للبقاء، أصبحتِ أقوى"
" وستتركني؟"
سكتَ طويلاً عندما فاجأه السؤال، فأعادت سؤالها مجدداً:
" ستتخلى عني، يادانيال؟"
" لديكِ فريميا، ورفاقك.. لن تشعري بالوحدة"
لم يدري أن كلامه سيجلب لها البُكاء، بل لم يشعر ببكائها الصامت إلاّ حين ضَحِكت ضحكة أصدرت شهقة بُكاء..
أحسّ بأنها تودُّ قول شيء لولا أنها تعجز عن صياغة جملة في حالتها تلك، التفتت إليه وهي تُحاول الابتسام، وقالت:
" لقد تخلى عني الجميع"
أخفضت عينيها حتى لا تتقابل مع عينيه المشدوهتين، ثم أردفت وهي تقترب منه:
" لرُبما حان الموعد لنتصالح..."
ورفعت يدها إليه حتى تصافحه، وكانت يده حين عانقت يدها دافئة للغاية..
سقطت دمعة على خدها دون أن تشعر فمسحتها بأصابعها المرتجفة، تمتم دانيال وهو ينظر إليها بنظرة ضيقة:
" لم يعُد بوسعي فعلُ شيء، لكنني سعيدٌ بأنني التقيتك في يومٍ ما... لن أنسى هذا"
وابتسم لها ابتسامة عذبة، رفع يده لينظر إليها فإذا به يراها تتلاشى شيئاً فشيئاً وتنكسر كأنها شظايا زجاج صغيرة، تحررت منها شهقة مرعوبة فنظر إليها، لَمِحَ في زمّة شفتيها علامات البكاء الذي سيُهدر إلى ما بعد رحيله، يُدرك أن حُزنها وصل إلى ذروته لكن مالم يتوقعه تقدمها البطيء نحوه، حتى إذا قابلته أمامه لفت ذراع واحدة حول عنقه وكأنها تُحاول إنقاذ ما تبقى منه، ثم أسندت يدها الأخرى خلف ظهره..
نظر إلى الفراغ بعجب قبل أن تنداح منه دمعة كبيرة، دمعةٌ ليست أكبر من همّه..
كان يبكي هذه المرة.. ليس على حزنه، بل امتناناً لها..
أغمض عينيه حين شعر بأن روحه تخرج رغبةً بالتحليق، نظر نظرة أخيرة إلى الظلام من حوله.. فرأى واحةً غنّاء مُخضرَّة، ونهرٌ يجري هدراً نحو الشلال، أحس بأن أحزانه تنصهر... قلبه يغترف من نبع السعادة، سَمِعَ همهمات روحها المكلومة دون أن تبوح، فتمتم بصوتٍ خفيض وهو يضع يده الوحيدة خلف ظهرها:
" أُسامحك يا إيما.. "
وهمس بصوت أخفض من سابقه، وبنبرة جافة ردّد:
" أُسامحك"
تشكلت في شفتيه ابتسامة باهتة وهو ينظر إليها بألم، أحس باقتراب نهايته فقال :
" الوداع "
تلاشى جسده في العدم، حتى إذا اختفى نظرت إلى الوهج الذي خلّفه خلفه ،وصارت تنظر إليه كأنها خاوية، خرّت على الأرض بركبتيها ووضعت كفّها على وجهها لتمنع دموعاً تحاول السقوط.
{تمــت}
المفضلات