ركضا بكل ما أوتيا من قوة نحو العطار ، استقرت راحتي يديها على الطاولة والتي لم تكن خالية من الأصناف و هي تلهث ، أغمضت عينيها لثانية تسترجع نفسها ثم رفعت بصرها الحاد نحو العطار ، بصوت صلب وقوي لا ينتمي لصوت بنات عائلة ابن بلكين ، بصوت صلب وقوي يشبه صوت جدتها حمده وفقيهات فاس ، نطقت على عجل وبفصاحة
" السلام عليكم ، ألديكم قنينة فيها ماء الأرجوان أو ماء الآذريون ؟ أي منهما ! "
بحاجبين مقطبين وجدية صادقة يجيب العطار وهو يلتفت للأرفف التي تنتظم فيها بضاعته " لدي كلاهما أي منهما تريدين " تجيب بسرعة وهي تتفحص أرففه من بعيد بعينيها
" إذا منقوع الآذريون من فضلك ، وهل أجد لديكم ثمار من خبز الآاكثار ؟ "
أجابها نافيا وهو يضع قنينة ماء الآذريون على الطاولة أمامها " لا يا أختي " تناولت القنينة ونطقت ببقية ما تطلبه سريعا " حسنا لا بأس أستعيض عنه بالزعفران ، لو كان لديكم ! وكذلك أحتاج معجون الازاذرخت " تسارع نبض قلبها وهو يهتف راجيا من الله أن يتوافر لديهم لأن إعداده سيستهلك وقتا منها ، وعندما رأته ملتفتا مخرجا لها ما تطلب نطقت مجددا بصوت ثابت وضربات قلبها تزداد في قوتها " ورماد الأرجوان من فضلك "
♡
.
.
.
كانوا قد أدخلوها للغرفة التي استأجرها العقاب ليلة البارحة في الخان وقد استلقت على فراش العقاب ، الذي كان جالسا بجوار رأسها ، متمسكا بيدها وعينيه الواسعتين الرماديتين متعلقتين بنور التي دخلت لتوها!
خفق قلبها و هي ترى ذلك العقاب على هذه الحالة ولكن تلك الوداعة لم تطول عندما نط من مكانه بسرعة فائقة لتجده واقفا أمامها ، ومن قرب شديد منها ، وعندما حركت قدمها لتخطو خطوة للوراء بعينيها الشاخصتين نحوه وملامحها الحائرة أسرع بالإمساك بمعصمها
حركته أثارت رائحة ثيابه المميزة بعطر ثمين ولكنها قطبت حاجبيها فلأول مرة ما كانت رائحة العطر الجميلة لتريحها وتبهجها ، ازداد ضغطه القاسي ، المفرط في قسوته على معصمها ، وحاجبيه البنيين الذين يتشارك لونهما مع لون غرة شعره الكثيف المتناثر نحو جبينه وصدغيه ، تجعدت ملامح وجه نور من الألم وطفقت تنطق بعينيها أن لماذا تفعل ذلك ! ولكنه نطق من تلقاء نفسه مجيبا على سؤالها الصامت ، عندما قرب وجهه من أذنها مع ازدياد ضغطه على معصمها وإيذاءه لها ليهمس قائلا بغل شديد
" إن حصل لها مكروه سأقتلك وإنني أقسم أنني سأقطع ذراعيك وقدميك قبل ذلك " ارتعدت نور ، واحمرت عيناها ، هل تسقط كل ما تحمله بين يديها الآن وتهرب إلى الموت والعذاب الذي سينزله بها أيا كان ما فعلت !
ارتعشت ساقيها اللتان تقف منتصبة عليهما متحاملة على ألمها وذعرها وعندما كانت مطرقة ببصرها تفكر في كل ذلك ، وفور أن أحست برطوبة أهدابها ، رفعت بصرها نحوه ، وبحدة مجددا ، أثبتت عيناها المحمرتين الدامعتين نحوه بإصرار ليتحرك ثغرها ناطقا
" أنا أدرك أنني عاجزة على إنقاذ نفسي من بين براثنك ! ولكنني إن شاء الله سأنقذ هذه الفتاة " وتحركت إلى الأمام نحوها دون أن تذكر أنه قد فسح لها المجال للمرور من فوره
و كان هناك أمر يدور في ذهنها حينها ، كانت جدتها تقول لها دائما ، إياك والشك في الغوث الإلهي ، إن في التقاء البحرين غوث لطلاب الملاحة والحلاوة
جلست على ركبتيها أمام الفتاة ، بيديها الخاليتين من الحلي تلمست وجهها المرتعد والمبتل ، ابتلعت من ريقها وذكرت في سرها اسم الله الحي ، بأصابعها أمسكت بذقنها وحنكها بلطف ، بإصبعها الإبهام سحبت شفتها السفلى وبيدها اليمنى سقتها أربعة رشفات بقدر تعلمته بدقة ، وتوقفت لبرهة تراقب تحركات فمها وبلعومها ، رفعت حواف حاجبيها و هي تلتفت سريعا نحو الأحمر قائلة " بسرعة قرب الدلو " و تلتفت نحو البقية وقد نطقت في الوقت الذي صدر فيه صوت الفتاة وهي تحاول القيء
" أمسكوا بها جيدا ، لتسند ظهرها يا تاتلي ! ثبت الدلو جيدا يا أحمر " كان فم مهجة المفغور يرتعش والدموع تسيل من عينيها ، كانت تبكي وتحاول قول شيء ما ولكن نور كانت تنتظر شيء واحد ، ألا وهو أن تفلح في القيء وتخرج ما في جوفها بأقصى سرعة ، وكان ذلك عندما انفجر القيء أخيرا من فمها ، أغمضت نور عينيها فرحا بذلك و هي تربت على ظهر الفتاة بحنان وتقول تشجيعا لها دون أن تعلم إن كانت تنصت لها أم لا " نعم يا صديقتي ، لا تقلقي ألم ضئيل وراحة مقبلة ، لا تقلقي "
كانت أنفاس الفتاة تتصاعد بقوة وكأنها تلتهم كل الهواء الذي في الغرفة ، ورأتها نور تنتقل بعينيها الذابلتين الجميلتين نحو العقاب ، ثبت بصرها نحوه ثم ضغطت على شفتيها واستعبرت باكية
♡
.
.
.
غادر تاتلي وأحمر والشهاب الغرفة ، بينما كانت نور في طريقها تصعد السلالم الخشبية عائدة من مطبخ الخان ، تحمل في يديها صحن صغير من الحساء ، وعندما صعدت آخر درجة من ذلك السلم ووصلت للرواق الذي فيه غرفتهم في الخان رأت أمامها ثلاثتهم ، تاتلي مستند على الجدار يتنفس الصعداء بينما كان الشهاب مائلا نحو الأحمر يتحدث معه عن شيء وقد فهمت نور من تصرفه حين وصولها أنه كان يسأله عنها ، حدثت نور نفسها أنه أمر طبيعي وبديهي فالآن سيكثر الحديث عنها بينهم وتزداد الشكوك ، ولذلك مرت من أمامهم بهدوء ودفعت باب الغرفة بعد أن طرقت عليه وكانت طرقاته تلك إنباء منها على وصولها
عندما دخلت الغرفة التفتت تغلق باب الغرفة خلفها بإحكام ثم اتجهت صوبهما ، تلك الفتاة والعقاب ، كانت شبه جالسة على الفراش تسندها عدة وسائد تهيء لها جلوسا مريحا ، والعقاب ، و ياللهول العقاب بظهر بنانه يدفع خصلات شعرها السوداء المبتلة بعيدا عن جبينها ، انتبهت نور لنفسها بعد أن توقفت لثواني تشاهد ذلك بذهول ، وتحركت بسرعة تقترب منهما ، جلست على ركبتيها وسحبت كيس الزعفران وأخذت تصب القليل منه ثم القليل منه وتخلطه مع الحساء بملعقة الخشب الصغيرة ، وفي تلك الأثناء نطقت نور مبتسمة صوب مهجة وهي تقوم بخلط الحساء " قد يسوء طعم الحساء بسببه ولكنه سيريحك " وحينها التفت العقاب ليومئ برأسه تجاه كيس الزعفران وينطق بجفاء " وما هو ؟ " وضعت نور صحن الحساء جانبا وأخذت الكيس وناولته للعقاب وهي تجيبه بلهجة تقول لا أنوي فعل الشر " زعفران ! " وفي تلك الأثناء كانت مهجة تراقب ما يجري حولها مقطبة الحاجبين في الوقت الذي نطق فيه العقاب وعينيه الرماديتين تشعان بالريبة " كيف علمتِ أنها تسممت بالأزاذرخت ؟؟ "
رفعت نور بصرها عن الحساء التي كانت تخلطه بالزعفران ووضعته جانبا قرب مهجة وابتلعت من ريقها قبل أن تنطق بهدوء وحذر " كان ذلك جليّا مما ظهر معها ... ولكنها لم تتناوله بالقدر الـ .. "
وهنا قاطعتها مهجة سريعا محاولة منع نور من إكمال كلامها وقد أدركت ما كانت تود قوله ، وخرجت الكلمات مندفعة من فمها مثل السهام " لقد خمنتِ ، وربما لم تجدي سوى ذلك لتحضريه للعلاج ! "
قطبت نور من حاجبيها برفق وهي تنظر صوب مهجة بملامح مستعلمة بينما كانت مهجة تكمل كلامها بعدم اكتراث وتذمر وكأنها تسعى لإنهاء الحديث " من حسن طالعي أن ما عثرت عليه كان مناسبا لما أصابني "
نفت نور برأسها وهي تنطق بشرود " إطلاقا ! .." واندفعت تتحدث وقد جعلتها أنفتها تجانب تصرف الحكمة وما يستدعيه ظرفها من تكتم .. فنطقت بعد أن رفعت ذقنها ، وحدقتي عينيها تتحركان بسرعة وقوة نحو مهجة والعقاب
" لقد حبس عنك النفس وضاق !
وألقى عليك بعارض من القيء
وألقى بغشاوة على بصرك ! "
كانت جمل نور المتتابعة تهبط ثقيلة على مسامع مهجة وقلبها ، بينما ضاقت عيني العقاب ، وعقله يتجاذبه التفكير بين القلق على مهجة حيث كان قد تذكر كل ما كانت قد نطقت به نور وعلى وجه الخصوص تمسك مهجة برقبتها عندما كانت تتلوى من ألم السم
وتفسير تصرفات نور الواثقة ! و كان عقله يلح على فكرة مع كل حرف تنطقه نور ونظرة حادة توجهها ، ألا وهي من المستحيل أن تكون هذه الفتاة جارية عادية من جواري القصر !
تقطب نور من حاجبيها وهي تكمل كلامها بلهجتها الحازمة والواثقة
" لم يكن من الصعب إدراك نظرات عينيك التائهة ...
ولا شك أنك لا زلت تشعرين ببعض الدوار في رأسك وإن كان قد نقص بعد استفراغك لما في جوفك "
انهمرت دموع مهجة وهي تنطق بحدة ودون لباقة ، خرج صوتها مشوبا ببحة وحشرجة " اخرسي ..كفي عن تذكيري بكل ما حصل .." وكانت مهجة في تلك الأثناء لا تود سوى أن تخرس نور وتتوقف عن تفاصيل تسممها ، ولكن نور أجابت وقد خفّت حدة نظراتها " لم أكن أنو تذكيرك بشيء ..سوى أنك كنت حتما مسممة بالازاذخرت وقد عالجتك بدوائه ! "
أومأت مهجة بعصبية وهي تنطق على نحو سريع وبامتعاض وإجهاد " حسنا , حسنا ..سيكافئك سيدي على ذلك .." ونظرت صوب العقاب بعينيها الدامعتين وهي تقول " أليس كذلك ؟ "
أومأ العقاب وهو يربت بيده على رأسها وعينيه منشغلتين بأفكاره ويجيبها بشرود مجاملا لها دون أن يولي كلامه اهتماما أو جدية
" نعم تتعافين ثم نكافئها "
وحينما نطق العقاب بذلك شاردا قامت نور بتثبيت بصرها نحوه وهي تحدّث نفسها و تشبك أناملها بتوتر خفيّ " أتساءل إن كان وقتك معي سيكون كافيا لذلك .."
وأشاحت ببصرها وهي تستذكر ما فعلته في مطبخ الخان ، وتلك الرسالة التي خطتها لأختها نضار
ورقها قطعة مزقتها من قماش فستانها وحبرها رماد الأرجوان*
من كان ليتصور أن رسالة نجاتها ستكتب بخطاط للحواجب ..
نهــــاية الفصــــــل
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الفلاكي : من قطاع الطرق بالأندلس ولكنه صار في خدمة السلطان
علي بن يوسف المرابطي وتولى مهمام لديه
ثم انضم للموحدين ثم عاد للمرابطين ثم انضم للموحدين مرة أخرى
*الاستطباب بعيون فاس : في مدينة فاس عيون مميزة وينابيع
باردة في الصيف وساخنة في الشتاء
و كانت تساعد الناس على الشفاء والاسترخاء
* ابن مردنيش : ثائر ظهر بالأندلس في أعقاب الدولة المرابطية
واستعان بالنصارى ضد الموحدين ، يعرف عند نصارى اسبانيا بالملك لوبو
أنكر بعض الباحثين نسبته العربية و أرجعوه إلى أصل اسباني حيث اسم جده
مردنيش محرف عن الاسم الاسباني martinz
* رماد الأرجوان : كانت تستعمله النساء خطّاط للحواجب (ابن البيطار)
المفضلات