-٤-
صوفي
حل صباح اليوم التالي فتجهزت مبكراً كالمعتاد وطلبت من ألكسا الذهاب معي الي قصر عائلة بيرك.. فرفضت بحجة رغبتها في البقاء وحيدة لتعمل على تصاميم ثياب موحدة للموظفين بالنزل، وسأكون أختاً جيدة وأثق من أنها ستأتي بتصاميم لبقة لا تجعلنا نبدو كفتيات الإعلانات، خاصة وأن معظم افراد الطاقم المكون من ثمانية أفراد غيرنا هم من جيل التسعينيات..
ففي النزل يعمل كُلً من السيد بيل والسيد ماث في اعمال الحديقة و المواشي، ويعدان الرجلين الوحيدين بالمكان، ومن ثم زوجة البستاني بيل السيدة لينا، متعهدة المطبخ التى تعد أشهى وألذ الأطباق بلا منازع، ومتى ما وجدت الفرصة تقوم بإعداد مربى الفراولة والتوت والليمون والبرتقال و من ثم تضمهم الى متجر النُزل الصغير، و أراهن من أنه بوسعنا احياء النُزل جراء بيع مثل هذه المنتجات الطازجة على نطاق واسع إلا أن لينا لا تحبذ الفكرة لأسباب شخصية..
وتساعدها في المطبخ لورا بيد أنها تصب اهتمامها بالعجن والأجبان وهما من أفضل الأصدقاء، وهنالك الأم العازبة ريتا وأبنها الصبي ثوماس والإثنين يعملان عند جدتي في خدمة تنظيف الغرف بكل تفان وإخلاص، وفي أقرب قرية مجاورة تعمل السيدة المحترمة مولي في اعمال الغسيل والكي من منزلها، وأخيراً جدتي المالكة القديرة لكل شيء، بالتفكير في الأمر فهم أشبه بالعائلة من مجرد محض زملاء عمل، وهذا ما يمنح النُزل دفئه المميز وأجواءه المريحة الساحرة ..
عرض العم براين إيصالي لمقابلة السيد فيليب بعد أن مر بالنزل لتناول طعام الإفطار وعلم بشأن مخططاتي لليوم، وأبى قطعياً أن أسير الى القرية المجاورة على الأقدام ومن ثم أختبر حظي في ايجاد من يقلني الى اعلى التلة حيث القصر، وكعادته تحجج من أن المكان في طريقه والكل يعلم أنه غير صادق تماماً، وأنه من الطيبة ليعرض علينا خدماته مرة تلوى الأخرى دون مقابل..
وحسب ما علمت مؤخراً أن العم براين أرمل وليس له في الأولاد نصيب، لذلك نجده يواظب على الحضور كل صباح لينضم إلينا في المطبخ على طاولة الإفطار وهو يلقى النكات المكررة والقصص المضحكة، فأصبح له مقعده في المكان ولم يعد يكمل الإفطار إلا بوجوده بيننا..
وفي هذا المشوار أصر الصبي المهذب ثوماس على مرافقتي رغبة في التغيير، فالمسكين بالكاد يغادر النزل لغير بيته البسيط الذي يبعد عن النزل مسيرة النص ساعة على الأقدام، وبحكم الإجازة الصيفية فإنه يعمل طوال النهار ولا يتقابل مع أصدقاءه من المدرسة وأغلبهم يعيشون مسيرة الساعة الى الساعتين عن مكان عيشنا، أذعنت والدته لرغبته على تخوف ولم تطلق سراحنا سوى بعد إلحاح شديد و تأكيد قاطع من أن الفتى سيكون بآمان..
وصلت السيارة الى البوابة الحديدة فملت برأسي صوب ثوماس الجالس بهدوء بيني وبين العم براين وقلت متسائلة:
- كيف يعقل أنك لم تزر القصر مسبقاً وأنت تعيش بالجوار!!
أجابني وعينيه منشغلتان عني بمراقبة الطبيعة من حوله بإنغماس:
- لم تسمح لي أمي من قبل بالإنضمام الى رحلات المدرسة الى هذا المكان، وكانت تعدني بأخذي إليه ذات مرة إلا أنها تعمل طوال الوقت كما ترين آنسة صوفي
فشعثت شعره الذهبي بأناملي وأنا أحب ظرفه وأدبه ومن ثم قلت بسرور:
- أشعر بالفخر كوني أول من يصطحبك الى هذا المكان سيدي الشاب ثوماس، تعلم أن لك مستقبلاً مشرقاً إذا ما أبقيت على جودة أخلاقك هذه.
تحاشى النظر الي رغم تبسمه بخجل ثم توقف العم براين أمام مدخل القصر بعد ذلك بوقت قصير، شكرته بحرارة وترجلت مع ثوماس ووجوده معي يشعرني بشئ من الإطمئنان حيال الحيوانات الأليفة الخاصة بهذه العائلة.. أطلت السيدة ليزا من الباب الرئيسي وهي تلوح لنا باسمة فرددت التحية وشققت طريقي باتجاهها و أنا متشابكة اليد مع ثوماس..
…
تركتني السيدة ليزا النشيطة انتظر في المكتب المنمق بالطابق السفلي وغادرت برفقة ثوماس ليتجول معها في الأرجاء، فمكثت هادئة لبضع دقائق ثم سلكت طريقي الى حيث النافذة الشاهقة ريثما ينضم لي السيد فيليب، وأمامها أخذت عيناي تجوبان أرجاء الحديقة الداخلية ما استطاعت لأتفقد الصبي المسرور وهو يركض فيها ويلعب مع كلب القصر الكبير، وحين شعرت بحركة قرب الباب أسرعت الى المقعد وتصنعت الوقار وأنا مطبقة على أنفاسي بإحكام..
ولج فيليب بحلة شبابية أقل رسميه عن التي كان يرتديها بالأمس ولا أظنه سرح شعره أيضاً، ومع ذلك وجدته أكثر وسامة وتأثيراً من هيئته بالأمس.. أبعدت الأفكار السخيفة عن رأسي وأنا أستقيم لأصافحه وأرد التحية الودودة التي قابلني بها:
- صباح الخير سيد فيليب، أعتذر عن إزعاجك باكراً هذا الصباح
فأمعن النظر في عيناي لثوان مما جعلني أشكك في اختياري للفستان الصيفي الزاهي الذي كنت أرتديه، والسترة الخيطية الموردة، استدار بعدها حول المكتب وجلس بعد أن أشار لي بالجلوس أولاً وأنتظرني لأفعل، ومن ثم قال:
- إذاً هل غيرت السيدة صوفيا رأيها بشأن مشاركتنا خطط التحسين التى تود الحصول على تمويلها من عندنا؟!
أومأت له بالإيجاب وأنا لا أستطيع غض الطرف عن جاذبيته الممغنطه وقلت وأنا أضع الملف على الطاولة برعشة خفيفة..:
- نعم سيد فيليب.. وتجد هنا كل شيء بالتفصيل من حيث الفكرة والتكاليف و التواريخ المتوقعة للإنتهاء من كل اضافة على حده.
استلم الملف وأنشغل بتفحصه بعناية بعضاً من الوقت، فوجدت الفرصة في تعنيف ذاتي وأمرها بالإنشغال بما هو مهم عوضاً عن استراق النظر الى أصابع يديه وتفحصها من وجود خاتم للزفاف الذي لم يكن له وجود، ومرت بضع دقائق قبل أن يقول متعجباً:
- على ما أذكر من حديث جدتك فإن هذه الخطط من اعدادك وصنعك أنت وشقيقتك الأخرى؟
ابتسمت بفخر وأنا أتذكر الجهد الذي وضعناه في كل ورقة من أوراق الملف:
- هذا صحيح، وبالتأكيد فإن التخطيط الهندسي وما إلا ذلك من رسومات هي من فعل اخصائيين كان لنا الحظ في معرفتهم مسبقاً، وهذا كان العامل الأقوى في تسهيل مهمتنا..
باغتتني نبرة حديثه المشككه بعنف حين بادر بالقول مجدداً:
- آنسة صوفي عذراً ولكن ماهي طبيعة دراستك!.. أنت في المرحلة الجامعية أليس كذلك؟
أجبته متباطأه وأنا لا أفهم مساعيه:
- بلى ..
قال:
- دعيني أحزر، طالبة في قطاع ادارة الأعمال؟!
فكشرت عن حاجبي وأنا أبتسم وأظنني ادركت ما يرمي إليه:
- ليس تماماً، ولكني عشت طيلة حياتي في فندق وحين نخطط القيام بزيارة عائلية فهي لفندق أخر..
أخيراً ظهرت ابتسامته المرحة وقال وهو يهز رأسه بعجب:
- هذا مدعاة للدهشة بحق!، أن تقوم شابتين لم تتجاوزا العشرينات من الخروج بعمل بهذه البراعة لهو أمر يبعث بالسرور والغبطة
وأحسست بالألفة تجاهه فقلت بفضول:
- وهل يعقل أنك تتجاوز العشرينات سيد فيليب؟
توالت ضحكاته الساحرة إثر قولي ثم قال:
- قبلنا مديحك يا آنسة، إلا أننا نبلغ الثلاثين خلال شهرين..
وكرهت عقلي السخيف مجدداً حين قام بالحسابات سريعاً دون الإستئذان أولاً.. إذاً فهو يكبرني بثماني سنوات فأنا أيضاً أبلغ الثالثة والعشرين الشهر القادم .. فرق السنين مثالي بيننا بالنسبة لي، لحظة.. أما زلت أفكر فيه بتلك الطريقة مرة أخرى، متى سأتعلم وأكف عن الحماقات!.. أردف فيليب وهو يغلق الملف أمامه:
- لن أخفيك من أن والدي أعطى موافقته منذ أن سمع برغبة السيدة صوفيا بالشراكة، إلا أني أصريتُ على القيام بالعقد بهذه الطريقة كي لا يتطور أي نوع من سوء الفهم مستقبلاً، وكان مهماً بالنسبة لي أن تثق السيدة صوفيا بنا تمام الثقة أولاً قبل أن نخوض غمار العمل سوية..
أجبت برزانة:
- أجدني أوافقك الرأي مجدداً سيد فيليب، إذا هل نمضي في توثيق العقد؟!
أجاب وهو يستريح بظهره الى الوراء:
- لا أنوي أن أبدو وقحاً على الإطلاق وإنما أتمنى أن تسمحي لي بمراجعة الملف مرة أخرى خلال اليوم وسأمر بالغد للإمضاء في مكتب السيدة صوفيا شخصياً، أهذا ممكن؟!..
تنهدت بهدوء لأتمالك عارض الإحباط الذي اعتراني بعد سماعي لرده المنطقي الأخير، وبتلقائية وجدت نفسي أقوم من مكاني وأنا أصلح حبال حقيبتي الصغيرة على كتفي ثم قلت وأنا بالكاد ابتسم:
- لا بأس على الإطلاق، إذاً نراك بالغد سيد فيليب طاب صباحك..
فبان التفاجئ على وجهه من الجمود الذي تلبس صوتي، إلا أنني أدرت ظهري ومشيت خارج المكتب بإنزعاج حقيقي.. إن كان لا يريد الإمضاء فهذا شأنه أما أن يسمعني آيات الثناء أولاً ليخفف من لذاعة الرفض بعدها فهذا احتيال لا أقبله!
وصلت الى الردهة الرئيسية بسهولة تُعزى الى تصميم القصر الواضح الذي لا يحتمل التعقيد، ومن ثم قصدت صالة الزوار لأنادى على ثوماس من الحديقة الداخلية، ومن منافذ الصالة خرجت الى الحديقة وعيناي تبحثان عن الغلام بإضطراب، فلم يكن له أثر حتى ظهر من ركن الحديقة وهو يمتطى فرساً صغيراً وبجواره رجل ناضج يمسك باللجام ليتحكم في حركة وسرعة الفرس، تثاقلت أنفاسي بفزع وسرعان ما قلت بذعر:
- أنزله في الحال.. أبعده عن ظهر الحصان أرجوك
..........
المفضلات