تمتم:
- يبدو وأنك لم تتلقي هديتي يوم الزفاف وبالتالي رسالتي فيها، لست غاضباً منك صوفي فٌكل منا لديه لحظات ارتباك وضياع، إنما أردت الإبتعاد ريثما تجميعن شتات أمرك فيكون هذا على وفاق مع لغة جسدك
وأراح بيديه على قلبي بينما أكمل وهو يبالغ في الإرتياح مع لمساته الرقيقة لشعري ورقبتي:
- هل تذكرين كيف هربتي مني في آخر مره! .. سعيدٌ من أن ذاك النفور قد زال، وأعلم بأننا قادرين على تجاوز كل العقبات الأخرى و كل ما عليك فعله هو الإيمان بنا فعل تفعلين!
وبدى وكأني أفقد السيطرة إلا أن الذي كان يحدث حقيقة هو اطلاقي لعنان كل تلك المشاعر المكبوتة من قبل ومعها تشنجي وتحجري، التحرر وحده كان تجربة عظيمة و لا يوجد معنى من التشكيك في صحة أقواله بعد الأن فقد منحني اعترافاً أقوى مما أستحق! استدرت إليه وعانقته كالمحرومين فأطبق علي بلطف وأغدق وافر حنانه، تمتمت بآسي:
- ظننت بأني خسرتك الى الأبد
أجاب باسماً:
- لم يعبرني هذا الظن ولا لدقيقة واحدة هل تمزحين!
ابتسمت برضا، إنه مغرور بطريقته الخاصة، ولكنني سعيدة ولا يسعني وصف السكينة التي عمت أوصالي، وكان من الواضح أنه يعاني من ثقل رأسه لما شربه على العشاء من غرابة تصرفاته فهو شديد اللباقة في العادة خاصة فيما يخص اللمسات، إلا أن ذلك لم يمنعني من مجالسته على الأريكية طوعاً طيلة ماتبقي من المساء وحتى ساعات الشفق الأولى، تحدثت معه خلالها بكل ما فاته مدة انقطاعنا وشارك هو قدر استطاعته من بين انهاكه الشديد، استراح برأسه أخيراً على حجري وغط في النوم خلال دقائق.
لقد استنفذت قواه بإتقان كما استنفذ صبري واستنزف مشاعري بالأيام الفائته، ولكن لا يزال ثمة ريبة في الأمر.. كيف يعقل أن لا تصله أي من رسائلي أو إتصالاتي!
وحين بدأت أشعة الشمس بالظهور علمت من أنه يتوجب علي العودة قُبيل استيقاظ والداي، فستبدلت حجري بوسادة وأسدلت عليه الغطاء فوق الأريكة ثم تسحبت بهدوء عائدة من حيث أتيت كإنسانة أخرى.
~~~
ألكسا ..
سمعت صوت صفير الباخرة وأنا في العلية أكمل وضع اللمسات الأخيرة لسهرة الليلة، وكان صوتها بمثابة المنبه ليعلمني بأن الوقت قد حان للنزول ولحاقها قبل أن تغادر وأبقى بلا وسيلة مواصلات تقلني الى المدينة.
هبطت درجات السلالم متعجلة وصادفت جدتي بالقرب من الباب الموصل للفناء الداخلي حيث استرعاها وجودي، رمقتها معاتبه وكأني أنتظر منها إقراراً على هيئتي فبتسمت وقالت:
- لست بحاجة الى اشادتي فأنت دائماً مبهرة!
عضضت على شفاهي السفلية بخجل وأسرعت بطِباعة قبلة على جبينها قبل أن أتابع طريقي نحو المرسي فالباخرة على وشك الوصول استوقفتني للحظات وناولتني وشاح الكشمير الذي كانت ترتديه وقبل أن أعبر عن اعتراضي أردفت بإصرار:
- عنادك هذا لن يفلح معه ألكسا، كما أن الأجواء تزداد برودة في الليل فلن يضرك ابقاءه معك!
زفرت بنفاذ حيلة وصبر وتبادر على وجهي ما كنت أحاول اخفاءه بالامبالاة وأنا أقول بإمتعاض:
- سمعت خصامنا بالأمس؟
أومأت وهي تمسح على عضدي:
- ولست أنحاز الى صف أحدكما وإنما أود لو تحاولي احتواءه عوضاً عن إثارة سخطه
قلت بحيرة:
- إنه ساخط على الدوام مؤخراً وأتفه الأمور تخرجه عن طوره، ألك علم كم مرة شككت في قرار الزواج هذا وكنت أظن أن مثل هذه الأفكار لا تعبر عقلي البته!
ضحكتْ وأردفت:
- ألكسا البريئة دعيني أأكد لك من أن هذا الشكك سيرافقك طيلة حياتك الزوجية، تماماً كما سترافقك اللحظات التي تؤكد لك من أنك قمت بالإختيار الصائب وأنك المحظوظة الوحيدة بهذا الكون، الشد والرخي هما عنصرا الزواج الأكثر استدامة
تنهدت بصخب وأنا أتذكر شجار البارحة على سماعة الهاتف، ذلك المجنون من يظن نفسه! .. لمحت جانب البحيرة فأبصرت العاملين يقومون بإنزال الجسر على المرسي، ودعت جدتي على عجل وأنا أصلح الوشاح فوق ثوبي الرقيق قبل أن أكمل طريقي، ولحسن الحظ فقد كنت على متن الراكبين لتلك الرحلة ..
كانت الباخرة ممتلئة نسبياً في الداخل بكثير من السياح، غالبتهم فضلوا البقاء فوق سطحها للإستمتاع بمشاهدة جمال قرية الملكات وبيوتها المطلة على النهر أثناء المغيب بينما فضلت البقاء بالداخل فوق إحدى المقاعد القريبة من الشبابيك الممتدة على واجهة السفينة الأمامية بأكملها.
ومن مكان جلوسي استطعت رؤية مجموعة أخرى من السياح يجتمعون حول فتحة مُسورة في قلب السفينة تكشف في بطنها عن عمال يقومون بإحراق الفحم بداخل أفران ضخمة تتغذى عليها الباخرة العتيق، وعلى رأس تلك المجموعة وقف عامل أخر يشرح للمستمعين آلية العمل وكميات الفحم التي تبتلعها سفينة بهذا الحجم الضخم وما الى ذلك من تفاصيل شاهدتها مئات المرات في كل رحلاتي الى المدينة، التي كانت في أغلب الوقت تقتصرعلى أسباب تخص العمل المزدهر بعد النجاح الباهر الذي حققه الزفاف الأول تحت اشرافي..
فتلك الليلة السحرية جعلت أهالي القُرى يتحدثون عنها لبضعة أسابيع بعدها، وخلال ثلاثة أسابيع أخرى لدي زفاف أخر تتم الإستعدادت الخاصة به على قدم وساق، إلا أن الليلة بمثابة راحة قصيرة من جدولي المكتض وسأقضيها مع بضع فتيات جمعتنا صدف العمل وأنشأت بيننا رابطة صداقة لطيفة..كنت قلقة بعض الشيء في سريرتي إذ انها المرة الأولى التى نخرج فيها سوية في احتفال بهذا الوقت المتأخر، فقد اقتصرت لقاءتنا السابقة على تناول وجبة الغذاء أو السير على ضفاف النهر بصحبة كوب من القهوة والحديث عن متعلقات العمل ومشاغل الحياة، والعجيب أن كل واحدة منا تختلف عن الأخرى تماماً والشيء الوحيد الذي يجمعنا هو قيامنا على أعمالنا الخاصة بأنفسنا ..
ألقيت نظرة خاطفة على ثوبي قبل أن أعاود الشرود في فساحة النهر من خلال النافذة، أرجوا من أنني لم أبالغ في التأنق مقارنة بهن، سيكون من المحرج أن أبرز أكثر مما أنا عليه .. واجتاحتني ابتسامة ساخرة، أيعقل أن أحسب حساباً لمثل هذه الأمور! .. لقد ألفت لفت الإنتباه منذ أيامي الجامحة في الثانوية وسنتي الذهبية الأولى في الجامعة، حيث كنت أسمع آنها همسات الحسد والإعجاب تقريباً في أي مكان أكون فيه بلا اكتراث مني، أم الأن .. تنهدت بهدوء .. هذا الجورج يدفعني للجنون من غيرته المفرطة، لا أصدق كم من مرة علينا الشجار قبل أن يدرك من أني لن أقوم بتغير شخصيتي في اللباس ليهدأ باله، الرحمة! يصور الأمر وكأني أخرج بلباس بائعات الهوى لا ثياباً أنيقة ليس إلا ..
وعلى الرغم من كوني اعترض بشدة على موافقته فيما يصبوا إليه إلا أني بالفعل قمت بالكثير من التضحيات مع خزانتي الشخصية في سبيل ابقاءه راضياً ولو بالقدر القليل.. لا أصدق كيف مر على زواجنا خمسة أشهر دون أن يقتل كلانا الأخر! ..
وصلت الباخرة خلال نصف ساعة أنقضت كالمح البصر فخرجت مع الجموع أقصد اليابسة وقبل أن أترجل من الجسر أعانتني يدٌ ما، تمتمت بالشكر دون أن أنظر الى صاحبها وأجتهدت في السير الى نقطة الإلتقاء الواقعة في الشارع الرئيسي من المدينة المبهرجة بإنارة و أجواء المساء الساحر، وما إن لمحتهن مجتمعات حتى اترسمت ابتسامة واسعة على شفاهي تزامناً مع شعور الراحة الذي اجتاحني، فخمستنا على ذات القدر من التأنق و الجمال الليلة .. تبادلنا التحية وأنطلقنا لتناول العشاء أولاً في المطعم التركي، حيث قمنا مسبقاً بحجز طاولة العلية المكشوفة بعيداً عن ازدحام الطابق السفلي وموسيقاه الصاخبة ..
كان الإختيار موفقاً من جميع النواحي والطعام لذيذ، وباتت الأمسية تزداد تشويقاً مع أحاديثنا وانتقالنا الى مقهي فاخر حيث تصادفنا مع مجموعة من السياح المهندمين واندمجنا معهم سريعاً، حتى أن ثلاثة منا تجرأوا على مشاركتهم الرقص بينما أكتفيت بالمشاهدة وأنا أشعر بأن الوقت قد حان للعودة مع جورج الى ذلك الصندوق وإن كنت لا أرغب في الخوض في ادنى مشادة من شأنها انتزاع سعادتي بهذه الليلة، على أية حال فات الأون فقد أرسلت في طلبه ..
تفرقت الفتيات في أنحاء المكان إما انشغالاً بمحادثات عرضية أو للذهاب الى دورة المياه وبقيت مكاني أراقب شاشة الجوال تارة وما يدور من حولي تارة أخرى حتى أخرجني أحدهم من تلك الدائرة بسؤاله:
- أنت التى كنت في الباخرة عشية اليوم أليس كذلك؟
رفعت رأسي للنظر إليه وسرعان ما شعرت بعدم الإرتياح الشديد لكونه يجلس في المقعد الأقرب لي على الطاولة العمومية الواسعة، وذلك لحقيقة أنه كان طاعن الوسامة الى الدرجة التي تشبهني كثيراً في لفت الإنتباه! ولأن التهرب بات مستحيلاً ونحن نتبادل النظر أجبته بإقتباض شديد:
- هذا صحيح
المفضلات