تلعثمت وبلعت ريقي بصعوبة من شدة اندهاشي، إنها ليست كما تصورت البته! .. بل و تميزنا أيضاً قبل أن نُعرفها على أنفسنا!! أردفت بخجل:
- آسفة .. جــ..ــدتي أنا ..
ابتسمت وقالت وهي تشير بيدها بسلام:
- هون عليكِ صغيرتي، من يلومك ولم يسبق لكِ رؤيتي من قبل
وكدت أن أصاب بسكتة قلبية حين أردفت ألسكا المصعوقة هي الأخرى بلا اكتراث:
-ولكن لا يزال، لا يمكن أن تكون "جـ ـدتـ ـي" بهذا الشكل، المفترض أنك عجورة من نوع ما !!
نهرتها بخجل وغضب:
- ألكسا..!!
ضحكت جدتي حتى كُشف عن أضراسها البيضاء المتراصة:
-أتصور أن هذه هي أحد فوائد العيش في بيئة طبيعية بعيدة عن التلوث، كما أنني أنجبت والدتكما وأنا في الرابعة عشر ربيعاً ومن ثم خالتكما في السنة التي تلتها ..
-"اذاً كم تبلغين من العمر الأن تحديداً؟!"
حتماً سأنتزع شعرات هذه الفتاة المجنونة عندما أختلى بها، كافحت هذه الرغبة بصعوبة وأنا أصك أسناني غضباً من حديثها البعيد عن اللباقة.. كيف تتجرأ وتسأل عن عمر شخص تقابله للمرة الأولى إنها لا تصدق!.. لربما كان يتوجب علي تركها عند خالتي حتى أتجنب الوقوع في احراجات كهذه، فمن الذي يتورطنا في المتاعب منذ الأن ياترى؟
- إذا كنت محظوظة كفاية فسأحتفل بعيد مولدي الخمسين بصحبتكما مع مطلع الشهر القادم، ويبدوا وأن صغيرتنا ألكسا بحاجة الى دورس في التهذيب واللباقة أليس كذلك
حاولت كتمان ضحكتي عن النفاذ ولكنني لم أنجح في ذلك بينما أستشاطت ألكسا غضباً وطلبت من جدتي إرشادها الى غرفتها حتى تغتسل وتريح جسدها من وعثاء السفر.
استجابت المرأة اللطيفة لها فحملنا حقائبناً مجدداً وصعدنا معها سلالم الدرج مروراً بطابقين جميلين تكثر عن أيمانه وشمائله حجرات موصدة الأبواب، تراء لنا من أننا سنمكث في وحدة منها حيث أن منزل جدتي هو النُزل ذاته، لكنها تابعت الصعود حتى انتهى بنا المطاف الى باب منعنا عن الإرتقاء أكثر، في ذلك الوقت أخرجت جدتي من جيبها حمالة مفاتيح ضخمة وأختارت مفتاحاً عليه عقدة حمراء لطيفة.. أدخلته في فُتحت الباب فستجاب لها وولجنا الى الداخل من ورائها.
أُضيئت الغرفة بعد أن أشعلت جدتي المصباح الوحيد بها وعندها كانت المفاجأه ..
تحدثت ألكسا بفضاضه وهي لا تكاد تصدق عينيها:
-أنتِ تمزحين بكل تأكيد.. إنها العلوية!!
اجابتها أعين جدتي وقد تبنت نظرة صرامة مخيفة لتزيد من اندهاشنا وقالت بهدوء ونبرة تخلوا من العواطف:
-وهل تظُنين من أنني سأخسر فرصة تأجير غرفة حتى أمنحها لحفيدتي المدللة التى لم تدفع لإستحقاقها بنساً واحداً! بهذه العقلية سأنتهى مفلسة أفترش قارعة الطريق عزيزتي.
أجفلت ألكسا من أسلوب جدتي المغاير للطفها البالغ في إستقبالنا قبل قليل، ولأكون صادقة فقد فاجئتني بفعلها أيضاً و أوجست منها خيفه فقد انقلبت مئة وثمانين درجة، وقالت ألكسا بإندفاع :
-حباً في الرب لا يوجد مخلوق صحيح العقل يرغب في أن تطأ قدمه هذه البقعة المنفية من العالم، بالتأكيد لن يضرك منحي غرفة واحدة لحين عودتي بدل تركها خاوية يسكنها الجن والمردهـ .
مدت جدتي يدها الطويلة نحو ألكسا وهي تُناظرها ببرود في مشهد حُفر في ذاكرتي الى الأبد وقالت برزانة:
-إذا لم تعجبك العلوية فخيار استئجار غرفة في نُزلي متوفر دائماً،الليلة بمئة دولار، عشرون باوند اضافية اذا أردتي إضافة وجبة الإفطار معها..
صمتت ألكسا لوهلة قبل أن تحتد نظراتها وتجيبها بثقة تعكس عن قبولها تحدي جدتي وقالت:
-حسناٌ إذاً .. اذا كان المال بُغيتك فهو ليس مشكلتي أبداً، سأكون سخية وأمنحك علاوة ١٠٪ لكونك جدتي فمارأيك؟.
تجاهلتها جدتي بكل برود و وجهت نظرتها الباردة نحوي فسرت القشعريرة في بدني دفعة واحدة، ثم قالت:
- وأنتِ صوفيا هل ترغبين في استئجار غرفة خاصة؟
نفيت برأسي سريعاً ونظراتها الحادة تخترقني، لقد وعدتها سلفاً ضمن كتاباتي لها من أنني سأقبل بأي من شروطها وهذا ما يجب على الإلتزام به، وقلت بنبرة سريعة:
- كلا أشكرك على سؤالك لكنني سعيدة بالعلية ولا مانع لدي من المكوث بها. -جيد إذاً .. أراك في تمام الخامسة صباحاً، سأجعلها السادسة للغد فقط كونك مجهدة من السفر ولن أقبل بدقيقة من التأخر،
ستساعديني في التنظيف واعداد وجبة الإفطار ثم حرث المزرعة كثمن لبقائك ولربما أمنحك علاوة أخر الشهر إذا ما أُعجبت بأدائك.
رمقتها ألكسا بذهول ومن ثم حولت نظرها نحوي بسرعة وعينيها تنظُران عن إذا ما كنت سأقبل بهذه الإهانة الصريحة على حد فهمها، أشرت لها بالصمت وشكرت لها امتثالها قلبياً وأنا أعلم مدى صعوبة تقبلها لرؤيتي أُعامل بهذه الطريقة دون اختناق الفاعل، انها جدتي ولن أجعلها في موقع العدو مهما حدث..
حولت جدتي نظرها نحو ألكسا أخيراً مما منحني بعض الأرتياح و حادثتها بهدوء:
-رجاءاً رافقيني الى مكتب الإستقبال حتى نكمل أوراق مكوثك لدي
تبعتها ألكسا وهي تنقل بصرها بين الطريق أمامها وبيني بأسى فلم يكن من السهل عليها تركِ أبيت في العلية وحدي، وبالوقت ذاته لا تستطيع التدخل في شؤوني الخاصة كما سبق وأن أتفقنا منذ زمن طويل.. و بعد خلو المكان تلفت حولي لأتفقده فوجدت سريراً مزدوجاً وبقربه منضدتين صغيرتين وضع على كل واحدة منهما اضاءة آثرية جميلة، كما توجد خزانة ثياب خشبية نظيفة على الجانب المقابل للسرير، تحركت في المكان بسلاسة ووسع وألقيت نظرة على الحمام المتصل بالغرفة من الخارج وكان جزءاً مبنياً من العلية أيضاً.. وبعد تبادل نظرة عقلانية سريعة أجدني مجبرة على الإعتراف من أن المكان لا ينقصه شيء لكنه بالتأكيد لا يقارن مع جناحي الخاص في الطابق الثلاثين بأول فندق امتلكته والدتي واطلالات نوافذي التى اُحسد عليها من قِبل جميع صديقاتي ومن سبق وزارني بها بلا استثناء.
أثار سروري وجود نافذة بيضاوية بالمكان أتضح أنها تفتح على سطح النُزل حين تفقدتها، ولم أتمالك سوى التبسم برضا لطريقة سير الأمور في عقلي، إنها طريقتي الفعالة في رؤية الأمور من منظور إيجابي حتى اتخطى ما أرغب من الصدمات بأقل أضرار داخلية ممكنة وفي هذه المرة تحديداً صدمتي من أفعال جدتي المتناقضة في غصون جزء بسيط من الساعة، أيا ترى لهذا السبب تركتها كلاٌ من أمي وخالتي معاً وهربتا من القرية فيما مضى؟.
أبعدت هذه الأفكار الخاطئة عن رأسي وأنا أحاول الإحتفاظ بالإنطباع الحميم الأول الذي تركته جدتي في نفسي لحظة لقائها، فقد كانت لطيفة مشرقة وتفوح منها رائحة الزهر.
يتبع...
المفضلات