الفصل الخامس
★★★
كانت ثلاثة أيام من الحداد على القس ريكسا كافية جداً، هكذا عادت المتاجر للعمل بأريحية أكثر، لم يعد الناس يشعرون أنهم أوغاد لأنهم يذهبون ليشاهدوا التلفاز ويأكلوا الاسبجاتي بينما هناك قس ميت لم تجف تربته بعد.
في سيارته كان چاري لا يزال يشرب قهوته الصباحية، عيناه منتفختان وأنسا في المقعد المجاور علقت على ذلك دون أن تلتفت إليه
- لديك هالات بحجم قبضة يدي، وأجفانك على وشك أن تبلغ حاجبيك..ربما عليك فقط ترك القضية.
كانت خاملة في مقعدها، تلف وشاحًا كبيراً حولها وتحدق خارج النافذة بمرارة، قرابة الأسبوع من الإجهاد الذي لم ينتج عنه أي شيء، فقط بعض المشتبه بهم وبعض الدوافع المحتملة، لا سلاح جريمة، لا مسرح جريمة..فقط لا شيء.
ربما عليها تغير مهنتها وإفتتاح مقهى في بلدة صغيرة بعيدة جداً عن هنا.
كانت السيارة متوقفة قريباً من الكنيسة، القس الجديد كان شخصاً صامتاً وغير تفاعلي، ولم يبد أن الكثير يريد زيارة الكنيسة حالياً.
- لايساندرا إيرڤارتى تعرف شيئاً ما.
طرفت أنسا مرة ولم تلتفت له، ربما بدت المرأة عصبية وقلقة قليلاً عندما ذهبا لزيارتها في شقتها، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن هناك شيئاً مخفيًا في الأمر.
- إما أنها قتلته، أو أنها تعرف من فعل.
لم تعلق أنسا، في الواقع..لقد فكرت منذ فترة الأن إن كان على هذه القضية أن تحل أصلاً، لقد كان الرجل مجرماً أيضاً، مع ذلك لا يبدو أن هناك دليلاً ليدينه سوى طفل قد لا يشهد ضده بسبب خوفه، ربما كان من الأفضل للجميع أنه رحل، للأطفال على الأقل.
لكن إن لم تحل هذه القضية، فستظل هذه البلدة تعاني من حقيقة وجود قاتل بين سكانها، سيصبح الجميع مجانين بالشك، ثم مرة أخرى..قد لا يكون القاتل شخصاً صالحاً في الواقع، قد يكون وغدًا آخر أسوء مما كان القس، قد يكرر الأمر مجدداً.
- لنذهب لتفقدها.
أنهى چاري قهوته وشغل المحرك بينما يتجه للمنزل الذي إستأجرت فيه لايساندرا إيرڤارتى شقة صغيرة لن تعود لها بعد الآن.
*************
نيلو ڤيكتورنوس كان قد سهر طوال الليلة الماضية يحاول إنهاء تدربه العملي على النص البرمجي الذي طلب منه يوستس أن يحفظه.
كان غير معتاد على السهر، وعندما يسهر شخص غير معتاد على السهر، يميل لرؤية أشياء غريبة.
كان هذا ما أقنع نيلو نفسه به طول طريقه لمنزل معلمه المؤقت والمتطوع لتنمية مهاراته في البرمجة الشبكية.
في الصالة في منزل يوستس وينفرد جلس نيلو مع حاسوبه فوق الطاولة مرتفعة الأقدام والتي إستخدمت كطاولة طعام أحياناً، على الجانب الآخر وقف يوستس مع سترة منزلية خفيفة تصل للأرض يتدلى حزامها حول خصره ويسكب له كوب قهوة.
- لم أرى في حياتي شخصاً يبدو كجثة متحركة فقط لأنه سهر ليلة واحدة.
دفع الكوب الكبير أمامه، ونيلو سحبه بيد مرتخية بينما يعالج عقله الكلام ببطء
- أنا لست معتاداً على السهر، عقلي لا يحتمل الأمر..هل أنت معتاد على السهر؟ ما هي أطول فترة قضيتها مستيقظًا؟
لم يكن نيلو يركز في ما يقوله فعلاً، يشعر بوعيه محتجزاً في زاوية ضيقة من عقله، كل شيء باهت وضبابي
- مائة وخمسين ساعة.
راقب يوستس الملامح البلهاء للفتى أمامه وسحب جرعة كبيرة من قهوته المثلجة عبر الماصة.
- أنت في حاجة للنوم، الآن..عد للمنزل.
مع بطء الإستيعاب هذا علم يوستس أن اليوم سيضيع على لا شيء، لذا من الأفضل أخذ راحة والمتابعة لاحقاً.
- صحيح..يجب أن أنام، قلة النوم تجعلني أرى أشياء غريبة.. مثل الأمس..أظنني رأيت من نافذة الغرفة أمين المكتبة يرمي حقيبة كبيرة في البحيرة..هل تتخيل ذلك! لمَ سيرمي أمين المكتبة حقيبة في البحيرة!
إنهار نيلو على الطاولة أمامه نصف فاقد للوعي، كان يتمتم بشيء ما غير مسموع، كان متعباً جداً ونعسًا جداً ولم يرى ملامح يوستس ليدرك أن هناك بعض الأشياء يجب ألا تقال.. مطلقاً.
ظل يوستس واقفاً مع كوب قهوته البلاستيكي الكبير بلا حراك لوقت طويل.
كان نيلو نائماً، وهو كان لا يزال يعالج القصة القصيرة غير الواعية التي أخبره بها.
إفرايم نورتون رمى حقيبة كبيرة في البحيرة..لماذا؟
لم يكن هذا أهم سؤال لديه حالياً، لقد كان 'كيف علم أنه إفرايم نورتون' هو السؤال الذي يزعجه الآن..هل كان من الممكن أن تقود تلك المعلومة له في النهاية؟
سحب يوستس كوب القهوة الذي بدأ يبرد مع كوبه هو الذي لاتزال مكعبات الثلج تملئ نصفه وغادر للمطبخ.
ترك الكوبين يسقطان في المغسلة وتمسك بحافتها الرخامية..يديه كانتا ترتجفان، عيناه شاردتان في مكعب ثلج على السطح المعدني للمغسلة، يذوب ببطء..
النافذة الكبيرة في المطبخ سمحت لضوء شمس الظهيرة الذي كان أكثر سطوعًا من العادة بإنارة المطبخ الواسع، يسقط على مجموعة السكاكين التي عكسته بدورها على عينيه تعميه للحظة قصيرة.
حدق يوستس لمجموعة السكاكين متفاوتة الأحجام لوقت طويل..كانت جديدة، وكانت حادة، حادة جداً في الواقع.
*************
- سيد نورتون، لقد أنهيت هذا الكتاب وأريد إستبداله بواحد جديد.
الصوت الرفيع الكائن الذي كان رأسه بالكاد يبلغ حافة طاولة الإستقبال التي يعمل خلفها إفرايم نورتون جعله ينحني قليلاً فوق طاولته لينظر للطفلة ضعيفة النمو التي كانت في الصف الثاني الإبتدائي.
كانت تمسك كتاباً عن الفلك أعد للأطفال مع الكثير من الصور وغلاف مبهر كاف ليلفت إنتباه أي شخص، كان إسمها لولا، كائن دقيق الحجم مع عينان بنيتان واسعتان ووجه دائري وذيلي حصان على جانبي رأسها الصغير.
راقبت لولا الابتسامة اللطيفة التي منحها لها أمين المكتبة بينما يسحب منها الكتاب العريض، يتراجع قليلاً ليسجل بيانات الإستعارة ويوقع على البطاقة الصغيرة الخاصة ببيانات المستعير في الجهة الداخلية لغلاف الكتاب.
- حسناً، ماذا تريدين أن تستعيري الآن؟
كان صوته خافتًا ولطيفًا، لولا الصغيرة كانت تحب كيف يكون لطيفاً عندما يتعامل معها.
- أريد شيئاً عن الأسماك هذه المرة، أريده أن يحتوي على الكثير من الصور كي أعرف نوع السمكة التي لدي في المنزل، تعلم..أنا لدي سمكة في المنزل داخل حوض دائري صغير، لونها أحمر ولديها ذيل كبير جداً، تقول والدتي أنها لا تعلم ما هو نوعها، تقول أيضاً أنه ليس من المهم معرفة ذلك ما دامت السمكة جميلة على كل حال.
إتسعت ابتسامة إفرايم حتى بانت أسنانه، الطفلة الصغيرة لم تعرف لمَ كان يبتسم بالضبط لكنها ابتسمت بدورها لأجل ابتسامته، تنتظر بأدب مكانها بينما يبحث بين القوائم الكثيرة لكتب الأطفال عن شيء خاص بالحياة البحرية.
تأرجحت لولا في وقفتها وغنت في عقلها أغنية ما بينما تنتظر، لم تكن منتبهة تماماً لما تفعله، لذا عندما إصطدمت أثناء تأرجحها بشيء طويل وصلب جفلت بينما ترفع عيناها للشخص الذي حدق لها من إرتفاعه بتعبير بارد وجفنان مرتخيان بكسل.
ضمت لولا يديها معًا وتراجعت خطوتين بينما تحدق برهبة للإستشاري النفسي من مدرستها..السيد إيليان أودرت..إيليا للإختصار.
رفع إفرايم عينيه عن الشاشة عندما أدرك وجود شخص آخر أمام طاولته، ولمفاجئته كان هناك شخص لم يره يدخل المكتبة أو أي مكان عام منذ أتى لهذه البلدة..مالذي كان إيليان أودرت يفعله في مكتبة عامة!
عوضاً عن ذلك سأله سؤالاً أكثر مهنية
- صباح الخير، كيف أستطيع أن أساعدك؟
نظرة واحدة لوجه إيليا كانت كافية لتخبر أي شخص بكم كان منزعجًا وكسولًا ليكون هنا، يبدو كما لو كان في حاجة للتراخي فوق كرسي ما ومنح الجميع نظرة «إذهب للجحيم..من هذه الجهة»
- حسناً..لدي قنديل بحر، أريد أن أعرف بعض الأشياء عن قناديل البحر، لذا كتاب موسوعي عن الرخويات البحرية سيكون جيداً.
- ما اسمه؟
نظر الاثنان للكائن الصغير قرب ساق إيليا والتي وضعت يدها على فمها بسرعة ما إن أفلت السؤال، تجعل إفرايم يرفع عينيه له بفضول هو الآخر.
إيليا بادل نظرة ملولة بينهما ثم فكر للحظة قبل أن يهز كتفيه ويقول بلا إكتراث
- چيلي.
لم يحرك إفرايم عينيه عنه للحظة، كما لو كان ينتظر أن يضحك الآخر بسماجة ويقول كنت أمزح، لكن إيليا لم يكن يمزح، لقد سمى قنديله البحري چيلي!
راقب إيليان كيف ضاقت عيني أمين المكتبة الخضراوان بينما تنفرج شفتيه عن ابتسامة تحولت لضحكة حاول منعها بكل قوته.
في الأسفل بادلت لولا نظرة بين الرجلين البالغين الذي كان أحدهما هادئاً جداً والآخر يتذبذب بسبب ضحكه المكتوم، يغطي وجهه بيديه ويحاول تمالك نفسه.
في موقف آخر، ربما كان إيليا ليصفق رأس الطرف الآخر بالطاولة حتى يكسر جمجمته، لكن هذا الشخص الآن لم يكن سوى أمين المكتبة اللطيف والهادئ، وإيليان لم يمانع منحه بعض الفكاهة.
هدأ إفرايم بعد دقيقة، يسحب نفسًا عميقًا ويسمح لجلده الذي تحول لزهري فاتح مع عرق جبين بارز أن يعود لطبيعته الشاحبة، تمتم باعتذار لاتزال أثار الضحك عالقة به قبل أن ينحني مجدداً فوق طاولته ليخبر الطفلة برقم الرف الذي وضع فيه الكتاب الذي تبحث عنه.
- أما بالنسبة لك، ستجد الكتب الموسوعية لعلم الأحياء في القسم s1، هناك واجهة رفوف كاملة، ستجد كتب الأحياء البحرية في القسم العلوي منها.
ألقى إيليان نظرة حوله، لم يكن هناك الكثير من الزوار في هذه الساعة من اليوم، وبالنظر للبطاقات النحاسية التي حفر عليها أرقام الأقسام، شعر بالإرهاق مقدمًا.
إنتظر إفرايم منه أن يبتعد للبحث عن كتابه، لكنه ظل مكانه يتأمل المكان بلا اهتمام ثم استدار إليه فجأة، يتقدم من الطاولة أكثر مع يديه في جيبي معطفه الأسود مفتوح الأزرار
- ليس لديك زبائن كثر للوقت الحالي، لذا تعال أحضره لي.
رفع إفرايم حاجبيه على الزبون غريب الأطوار والذي كان يتصرف كطفل مزعج، لم يكرهه مع ذلك..لسبب ما، تبقى ابتسامته الهادئة مكانها بينما يخرج من خلف الطاولة متجهاً لقسم الكتب الموسوعية حيث تبعه إيليان بصمت.
*************
المفضلات