بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
يسير على الأرض الترابية بتعب ، و من خلفه يجر همومه معه .. الليل غطى الكون بظلمته و هدوءه ، فالكون في سكون و الجميع نيام سواه هو .. وصل لمكانه المنشود .. قطعة أرض مربعة يكسوها الخضار ، استقرت فوق ذلك التل المرتفع .. خلع حذاءيه بخفة ثم سار بقدميه العاريتين فوق العشب البارد الذي يلمع تحت ضوء القمر ، و يعكس قطرات الندى العالقة فوقه .. توقف في منتصف تلك الجنة الصغيرة ، ثم أخذ نفسا عميقا قبل أن يستلقي فوق العشب و يعقد ذراعيه خلف رأسه .. سرعان ما سحب ذراعه اليمنى و سمح لها أن تمسح على ثيابه الرثة التي كان يرتديها ، و ترك لشعره - الذي يحاكي الليل في ظلمته - الحرية حتى يختلط مع حبات التراب تحته .. رغم الصعوبة و البساطة التي يعيش فيهما إلا أن كل شيء فيه كان ينضح بالرضا ، فلم يتذمر يوما من رعي قطيع الأغنام فوق التل من الصباح الباكر إلى قبيل غروب الشمس ، لم يشكو من السير الطويل حتى يصل للبئر التي تكون خارج حدود القرية ، ليملأ الجِرَاب التي معه بالماء ثم يعود و يوزعها على أهالي القرية بكل حب و سعادة .. لم يتململ من إدارة المحل الصغير الذي يملكه لبيع الفاكهة و الخضار لساعات طوال .. نعم كل هذا الحمل صعب عليه أن يحمله وحده ، لكونه رجل عائلته الوحيد ، فهم يعتمدون عليه اعتمادا تاما بعد الله سبحانه و تعالى في تحصيل لقمة العيش لهم .. لكن حب أسرته ، و قريته الصغيرة بأهلها البسطاء و بيوتها الطينية الصغيرة ، و ترابها ، و أشجارها ، و سهولها الخضراء .. كل هذا ينسيه تعبه بل إن صح التعبير يجعله يتلذذ به .. فإن كان يعمل لأجل كل هؤلاء فهو راضٍ بهذه العيشة الشاقة ، سعيد بل إن أسراب الأُنس تحلق فوق رأسه و نادرا ما تبتعد عنه .. كل ليلة يلوذ هو إلى هذه البقعة الصغيرة ينشد الراحة و السكون .. فتجده يناجي القمر سرا ، و يسهر مع نجوم السماء ، يصافح أشجار الصنوبر ، ويبتسم لشذى أزهار الزنبق البيضاء ، و يداعب الفراشات الصغيرة التي ترفرف حولها بسرور .. هذه الجنة الصغيرة صديقته المخلصة الوفية ، يستطع أن ينسى فيها همومه و تعبه ، يشعر أنها تفهمه و تحس به رغم أن السكوت هو طريقة التواصل الوحيدة بينهما ، و ما أبهاها من طريقة .. فالصمت في حضرة الجمال جمال ! هبت نسمة هواء باردة ، حركت أوراق الأشجار ، وجعلت العشب يتمايل في دلال و يعانق بعضه البعض .. تزحلقت قطرة ندى .. تبعتها اخرى و استقرتا داخل تلك التربة الطينية .. اعتدل الشاب جالسا و وهو يوزع نظراته على أرجاء البقعة الجميلة ، ثم يستقر بها مجددا إلى السماء تحديدا إلى ذلك الجبين اللجيني الذي يأسره بضيائه و فتنته الملهمة ، ابتسم بعدها ابتسامة واسعة شعت منها عيناه العسليتان ، و انبسطت أسارير وجهه في ارتياح بالغ و هو يتمتم :
-سبحان الله .. ما أجمل صنعه و أبهاه .. سبحان الله
أحس بأحدهم يضع يديه على كتفه ، ثم قال :
-ماذا تفعل هنا ؟
استدار إلى صاحب الصوت ثم نهض و مد يده إليه مصافحا ، وهو يبتسم بعذوبة :
-أنال قسطا من الراحة ، و أتأمل .. مرحبا بك .. ما أخبارك ؟ و أخبار والديك ؟ و كيف كانت رحلتكم ؟
ابتسم الآخر بإحراج قبل أن يشد على يد صديقه بود :
-آه أعذرني ، نسيت أن أسلم عليك ، جميعنا بخير و لله الحمد .. ماذا عنك وليد ؟
-وليد ؟ وليد ؟ ما بك هل أنت بخير ؟
فتح وليد عينيه ليجد نفسه واقفا وسط الطريق المعبد ، يصافح صديقه سمير .. ترك يد صديقه و أخذ يتلفت حوله بتعجب .. أين جنته الخضراء الصغيرة ؟ و القمر، و البيوت الطينية ، و الطريق الترابي ؟ دكانه الصغير ، و قطيع الغنم ، و أهالي القرية البسطاء .. أين اختفى كل هذا ؟ نظر لثيابه و لدهشته وجد نفسه يرتدي بنطالا ناصع البياض ، و قميص قطني أزرق اللون .. مهلا هذه الثياب لا تناسب بساطة قريته .. ما الذي حل بثيابه القديمة المهترئة ؟
كان سمير يتأمل نظرات صديقه المذهولة ، ثم سأله باهتمام :
-وليد ما بك ؟ لقد صافحتني فجأة و قلت كلاما غريبا كرحلة و تأمل
نظر لصديقه و هو يهز رأسه بعدم تصديق :
-سمير أين أنا ؟
ظنها دُعابة من وليد ، لذا أجاب بسخرية :
-في عصر القرون الوسطى !
-لست أمزح يا سمير .. أين القرية الصغيرة ؟ و الأشجار و أزهار الزنبق ؟ أين بئر الماء القديمة ؟
عقد سمير حاجبيه بضيق و قلق ، قبل أن يضع يده على جبين صديقه و يقول باهتمام :
-وليد بربك ما الذي تهذي به ؟ افتح عينيك جيدا .. أنت الآن في قلب المدينة .. لقد بدأت أخشى عليك أنت غير طبيعي بالمرة ! هل كنت تتخيل نفسك في قرية مجددا بينما كنا تسير معا ؟ وليد يا صديقي يجب أن تراجع طبيبا نفسيا .. صدقني أنا أقول هذا من حرصي و خوفي الشديد عليك .. وليد استيقظ .. استيقظ من أحلام اليقظة المخيفة التي تراها
أبعد يد صديقه ، و أخذ يمعن النظر جيدا فيما حوله .. لم يجد غير طريق مسفلت ، تزاحمت فوقه عشرات المباني ، و الأسواق ، و المطاعم المختلفة .. الكل يسير و برفقته جهازه المحمول ، ثياب ملونة براقة ، واجهات محلية تضيء في الظلام .. سماء سوداء كئيبة لا ينيرها ضوء القمر .. صفعته الحقيقة المرة وعلمّت فوق جبينه خيبة كبيرة ! إنه و كما قال صديقه الآن في قلب المدينة ..
×××
همس سمير ببضع كلمات في أذن والد وليد ، قبل أن يرحل و يترك وليدا ووالده واقفان أمام باب منزلهم المتواضع .. تنهد الأب بضيق ثم اقترب من ابنه ومسح على رأسه بحنان :
-إلا ما تنظر ؟ هَلُمَّ بنا إلى الداخل
تقدم بخطوات متتردة ، و الحزن بادٍ على محياه ، و كل ما فيه ينطق بعدم الرضا .. تبعه والده و أغلق الباب و هو يهز رأسه بأسف على حال ابنه البكر .. حين دخل الصالة لمح والدته تجلس أرضا مع إخوته الصغار ألقى عليهم السلام بصوت مثقل بالهم ثم اتجه نحو غرفته سريعا .. عندما اختفى دخل والده و ألقى بنفسه على أقرب أريكة و هو يفتح أزرار ثوبه العلوية .. نظرت إليه زوجته باهتمام هذه الحركة تعرفها جيدا ، إنها انعكاس واضح لأي ضيقٍ يشعر به .. نهضت و تقدمت إليه ثم جلست بجواره و هي تقول :
-عساه خيرا يا أبا وليد
نظر لأبنائه الصغار الذين يلهون بألعابهم بسرور بالغ ، قبل أن ينظر لزوجته :
-ابنك وليد ، لقد عادت إليه تلك الحالة .. بل إن صح التعبير لم تغادره البتة .. يتوهم أشياء لا وجود لها على أرض الواقع .. أخبرني سمير أنه كان يتخيل نفسه يعيش في إحدى القرى الصغيرة و ما شابه .. آه يبدو أنه أُصيب بالجنون !
-لا تقل هذا .. هي نوبة بسيطة و ستمضي على خير إن شاء الله
قال بانفعال :
-عن أي بساطة تتحدثين ؟ إنه على هذه الحالة منذ 3 أشهر .. لابد أن أعرضه على طبيب نفسي ، أو شيخ ليقرأ عليه .. صبرنا عليه كثيرا ولم يتغير
صمتت الأم بحزن بالغ ، إنها تريد أن يعرضه فعلا على طبيب و لا تريد ، تشعر أنه جُن و في نفس الوقت لم يُجن .. وصلهم هذه اللحظة صوتُ ضوضاء يصدر من الأعلى ، زجاج يتحطم ، و أشياء تتدحرج على الأرض .. توقف الصغار عن اللعب و هم ينظرون حولهم بخوف ، بنما أسرع الوالدان إلى حيث الصوت .. هذه الجلبة لن تصدر إلا من غرفة شخص واحد .. وليد و فقط ! فتح الأب الباب بسرعة و هاله ما رأى .. كان وليد يمسك بيده مطرقة كبيرة يرفعها ثم يهوي بها على التلفاز و هكذا دواليك .. حتى تحول لفتات و تناثرت قطعه في أرجاء الغرفة .. بعد أن ابتلع الأب دهشته اقترب من ذاك الثائر ، سحب المطرقة و ألقاها بعيدا ، و أمسك بكتفي ابنه و أخذ يهزه بقوة :
-وليد ما الذي تفعله ؟ أجننت
دفع والده بوحشية و هو يقول بغضب :
-اتركني و شأني .. من احضر هذا الجهاز اللعين إلى غرفتي ؟ يجب أن أتخلص منه
وضعت والدته يدها على فمها بخوف ، بينما اتجه وليد إلى حيث المطرقة ليكمل ما بدأ به ! جسده كان يرتعش بطريقة غريبة ، و كل خلية بداخله تصرخ بغضب وجنون ، عيناه غلفتهما قسوة ، و حاجبيه معقودان بشدة .. انحنى ليلتقط ضالته لكن يد والده كانت أسرع أمسك بتلابيب ابنه و دفعه بعنف على الجدار و هو يصرخ :
-استيقظ .. كفاك جنونا .. هذا 4 تلفاز تحطمه .. توقف يا وليد عد إلى رشدك
أنفاسه ثائرة و صوته خرج محتدا محتجا :
-قلت لك دعني .. هذه الأجهزة الغبية لم تكن متواجدة في قريتي .. ينبغي علي أن أحطمها كلها أتسمعني ؟ سأعيد قريتي كما كانت و أخلصها من شرور هذه الأشياء .. اتركني أيها المريض المختل أريد أن اذهب
تلقى على خده صفعة قوية من والده ، الذي ألصقه بالجدار أكثر و هو يهمس بفحيح غاضب :
-نعم ستذهب و لكن إلى المصحة النفسية ، ينبغي عليك أن تتعالج لأن الأمر خرج عن حدود السيطرة
اقتربت الأم المفجوعة و هي تداري دموعها حتى لا تسقط :
-ما كان ينبغي عليك ضربه .. هداك الله .. العنف لا يعالج شيئا .. سيذهب معنا بإذن الله بدون هذه القسوة
حاول وليد أن يتملص من والده و هو يصيح بشدة و يهز رأسه بجنون :
-لن أذهب لأي مكان دعوني دعوني .. أريد أن أستعيد جنتي الخضراء !
المفضلات