*
الناس يمشون بالأسفل. أحدهم يحمل ابنه الصغير على كتفيه بينما زوجته تبدو محتجة على شيء ما.
وهناك من يقود سيارته وهو يتلفت بحثاً عن منفذ ما من الزحام، ربما هو يحاول العودة للمنزل بعد يوم شاق من عمله على الأرجح.
كل واحد منهم يعيش قصة مختلفة تماماً، بمصير مختلف رغم انهم متشابهون. لطالما كان هذا الأمر صعب الفهم لوالدي.
الرنة الهادئة المتكررة في أذني تجرفني أبعد مما أراه. بعد كل هذه المباني التي تحجب رؤيتي عن النجوم، ماذا بعد؟
هل هذا كل شيء؟
الليلة الماضية اشتد الحديث بيني و بين أبي حتى غادرت المنزل و لم أكن أريد العودة في أي وقت قريب، لكن التقيت به هنا مرغماً.
ما زال أبي يريدني أن أحذو حذو أخي الكبير لأصبح محامياً ما، و أن أهتم أكثر بمظهري بشراء هاتف جديد و سيارة أفضل حتى أنال رضى الجمهور بالخارج.
وكأنني صرت محض كومة إحراج يحاول تزيينها لتبدو أفضل.
إنه ما لا يمكنه التحكم به ما يسبب الإحراج له، ليس مظهري، فذاك أمر لا أبالي به.
الحياة في المدن صارت أشبه بقالب جاهز لتلبسه، الأمر الذي سيقودك لتبتاع ملحقاته بعدها بثمن باهظ، لتفقد جزءاً من إنسانيتك.
أمسكت بمقبض الإبريق وبدأت أسكب برفق الشاي في كوبي الفارغ. صوت الخرير البطيء لسبب ما، يمزق على مهل شيئاً بداخلي.
وكأنه يوقظني من غفوتي ليعبث من جديد بمشاعري التي ما عدت أشعر بوجودها، وكأنني أجوف.
شيءٌ لا أجد له مكاناً في هذه الأزقة الإسمنتية، يطلق عليه البشر باسم، حياة.
ما زال أبي يعتني جيداً بكل شيء، و كأن ذهنه لا يغفل للحظة ليسترخي و يستمتع باللاشيء.
حين أخبره أنها مجرد "أشياء"، فسيجيب قائلاً " إنها الأشياء التي تصنع لك عيشاً كريماً".
هل أنا مجنون؟ فيبدو أني الوحيد الذي يبصر الحقيقة.
ما قيمة الحياة هنا؟
هل حقاً هناك فرق؟ بين الموت و الحياة المدنية؟ كلاهما يصنعان منك جثة، بلا روح تستنشق الحياة.
ولست متأكداً من الموت، ربما في أعماق الأرض عالم فسيح.
هذه الجدران تخنقني. أود أن أكون في العراء، في الصحراء، في الغاب، في أي مكان لم يعبث ببيئته مجتمع بشري.
في أي مكان، لا يقيدني فيها قانون من صنع بشر. في مكان، آخر ما يُهتم به هو الأغلفة الرخيصة و المسميات الفارغة.
كما ترى، الأُسود لا تعرف ما هو الجمال أو القبح، هي ستأكل الاثنين.
إنها مفاهيم من خلقنا، حين نرجح كفة شيء ما على الآخر؛ تولد موازين جديدة لتفتيت ما تبقى من روابطنا الإنسانية.
لم يتبقى لي سوى شهرين حتى أنتهي من دراستي الجامعية وأبي أكثر ترقباً مني لذاك، حتى يتحول هدفي تلقائياً إلى البحث عن عمل.
وكأننا نملك جميعاً نوع من الكاتالوج الذهني للحياة البشرية.
نختار الطريق الأسهل، الذي تم تجربته و ضمان نجاحه فنسلكه، ومن ثم نغتاظ من أسباب نجاح أولئك العباقرة كما نسميهم في تجاربهم الجريئة -التي فكرنا بمثلها.
تجارب يصدح و يتغنى بها المجتمع الذي أرغمنا في المرتبة الأولى بالانصياع لكاتالوجه البالي.
أخي اختار الطريق الأسهل، الآمن، المضمون، فلا أفهم لِم أبي ينعته بالعبقرية و تلصق تهمة الغباء و البلاهة بي؟ إنه محض جبان كسول!
أشفق على عباقرة المجتمعات المقدسين، فرحلتهم طويلة شاقة لأنهم سيبقون مجرد مجانين حتى يكتب نجاحهم فيتقبلهم المجتمع كأبطال خارقين للعادة،
ويبدأون مراسم تقديسهم و تعظيم كيانهم البشري.
فينصاع المجتمع لهذا و يبقى تحت ظل أولئك المعظمين الذين يعودون لمنازلهم في محاولة لمراجعة حساباتهم ما إذا كانوا حقاً مخلوقات استثنائية.
أحياناً أفكر بجدية أن أترك المدينة. أختفي بعيداً، حيث لن يجدني أحد. سأعيش كما يجب.
كما يجدر بأي كائن بشري أن يعيش، حراً طليقاً، لا تقيده مجتمعات وثنية.
ارتعش جسدي بصوت حاد اخترق سمعي. لقد كنت شارداً لوقت طويل على ما يبدو، فقد عادت الأصوات تضخ في رأسي دفعة واحدة وكأنها لم تكن موجودة من قبل.
الرنين تمطط ليصبح نغمة طويلة، صوت والداي خلفي تحول لنواح، و صوت نشيج أختي يداعب أذني، حيث تمسكت بمعطفي وصار رأسها الآن مسنداً على كتفي.
التفت ببطء لأنظر لكل تلك الأجهزة الطبية التي أحاطت به ، و قد استلقى هناك أخي بلا حراك، في عيد ميلاده الثلاثين.
لقد كان آخر أمل لوالدي في تحقيق أحلامهم للرفاهية، حتى تمزقت جانب الطريق، مع سيارته المطحونة.
كانت ردة فعلي مخيفة لأختي حين قلت لها متسائلاً " يا ترى، هل سيعيش بشكل مختلف لو استيقظ الآن؟ "
.
.
.
المفضلات