بسم الله الرحمن الرحيم
حَنينُ المَد
كمنظر غابةٍ تغفو في ظلمة الليل حول بحيرةٍ براقة كالقمر.. يكون الجمال لوحةً للتأمل
كتحطم أمواج بحيرةٍ عكست وجه قمر وحيد.. تكون الطبيعةُ لغزًا رائعًا
كضياء القمر الهادئ.. يكون العطاء ساحرًا وآسرًا
كالقمر نفسه.. يُخيل إلي أنك معي، تتبعني حيثما أذهب!
ملايين السنين تفصلنا عن أحداث قصةٍ أريد أن تكون همسةً في الليالي المظلمة
قصةُ لا يعرفها إلا القلة، قصةٌ يتجاهل وجودها الكثيرون!
لقد حدثت هذه القصة هنا، على كوكب الأرض الذي نعيش فيه، ولكن لم نكن نحن قد خُلقنا بعد..
كثيرةٌ تلك المخلوقات التي عاشت قبلنا ونحن لا ندري!
كان بعضهم مجرد أرواحٍ بلا أجساد، بعضهم كانت أجسادهم من مواد لا نعرفها،
وبعضهم كانت أجسادهم بأشكالٍ لا تخطر على بالنا، بعضهم كانت لهم قدرات عجيبة لا نملكها،
وكان لكل نوعٍ منهم أماكن خاصة يعيشون فيها بطريقة تختلف عن المخلوقات الأخرى،
ولكن أقربهم لنا كانوا مخلوقين من الحجارة!
أهل الحجارةِ تميزوا بقوتهم الجسدية،
وكانوا يشبهون بني الإنسان في مظهرهم العام لولا أنهم يبدون كأنهم قد نحتوا نحتًا من قطع جامدة،
كأنهم تماثيل مصنوعةٌ من الفخار و الخزف. أما حياتهم،
فكانت أكثر شبهًا بنا، إذ عمروا بيوتًا وشيدوا مدنًا صغيرة وأسواقًا. أما أكثر شيءٍ نتشابه فيه معهم فقد كان...
"إنها غريبة!"
همست بتلك الجملة لرفيقاتها ، ثم التفتن جميعًا ناحية بيتٍ حجري صغير ليرمينه بنظراتٍ ثاقبة كادت أن تخترق جدرانه البسيطة.
عادت المتحدثة إلى الكلام بعد أن استدارت إلى مَن معها: "أحيانًا أشك في كونها واحدةً منا"
ردت إحدى الرفيقات: "إنها منا أبًا عن جد ، كل ما في الأمر هو أنها..."
مطت شفتيها بقليلٍ من الإزدراء باحثةً عن كلمةٍ مناسبة، ثم تابعت: "غريبة!"
أشارت إليها الأولى بحماس بيدها التي تشبه الحصى: "وهذا ما قلتُه بالفعل!"
ضربتها إحداهن على كتفها برفق: "الباب يُفتح!"
التفتن بسرعة كرةً أخرى ناحية البيت وكأن كلام صديقتهن لم يكن شهادةً كافية ،
ثم لملمن أطراف ثيابنهن الفضفاضة الطويلة وسارعن بالمشي قبل أن تلمحهن صاحبة البيت وهن يراقبن المكان.
من باب البيت الصغير، خرجت شابةٌ جميلة وفاتنة بخطواتٍ هادئةٍ و واثقة.
رفعت الشابة طرف وشاحٍ ثقيلٍ يلتف على كتفيها فوضعته على قمة رأسها كي تحتمي بظله من الشمس الساطعة ،
وقد تميز وجهها ويداها بلونٍ أبيضَ يخالطه لون الفضة ، وانعكاسٌ طفيفٌ على جسدها الحجري أعطاها مظهرًا آسرًا كما لو أنها محاطةٌ بهالة ضوءٍ خافتة.
سارت إلى مكان عملها ملقيةً التحية من حينٍ لآخر على بعض سكان القرية مع ابتسامةٍ لطيفة.
كان البعض ينظر إليها بإعجاب واحترام بينما كان هناك مَن ينظرون إليها بتحدٍ أو استحقار،
ولم تكن غافلةً عن معاني نظراتهم كما كانت تستطيع أن تسمع الهمس مِن حولها بجملٍ مختلفة.
- "ها هي! ها هي!"
- "لقد وصلَت"
- "صباح الخير يا سِيلا!"
سيلا.. تلك الشابةُ الغريبة!
ليس الأمر وكأن كل أهل الحجارة متشابهون في الشكل أو في الأفكار والتصرفات، ولكن هي.. هي غريبةٌ جدًا!
من الصعب إنكار جمالها، والأصعب هو إنكار ذكائها ومهارتها وإخلاصها في كل ما تعمل؛
سواء قامت بالتنظيف أو الطبخ، وسواء اعتزلت بنفسها لصنع بعض الأدوات بيديها كي تبيعها، أو اشتركت في العمل مع المزارعين في أعمالهم؛ هي تتقن كل شيء!
حتى تقشير أكواز الذُّرة يبدو فنًا لا يجيده الجميع حين تقوم به كما كانت تفعل ذلك اليوم.
همس أحدٌ بحقد وراءها: "لماذا هي رائعةٌ جدًا!"
وألقى كوز الذرة على الطاولة أمامه ضجرًا من العمل ، وأخذ يحدق بها مع أصحابه.
قال أحدهم بسخرية بينما كان يقشر ببطء وعيناه مثبتتان عليها بتركيز: "تلك المدعوة بـ سيلا.."
- "غير الطبيعية!"
- "غريبة الأطوارِ سيلا!"
- "المجنونة سيلا"
- "المعقّدة سيلا"
- "تبًا لسيلا!"
تبادل الهامسون ضحكةً متشفية معتقدين أن كلماتهم في معزلٍ عن الوصول إليها،
في حين تمتمت الشابة في نفسها دون أن تتوقف عن العمل: "بل تبًا لكم أنتم!"
كان الغضب يتصاعد في داخلها، ففرغت غضبها على عملها وصارت أكثر سرعةً ودقة بينما تلاطمت الأفكار في رأسها بعصبية:
"يا أشباه الحجارة! لو ضربتُ أحدكم سيتفتت إلى ألف ألف ذرة رملٍ صغيرة!
إن كان لديكم وقتٌ لمراقبة الآخرين والسخرية منهم، فاعملوا بدلًا من إضاعة الوقت!"
تنهدت بعمق قاطع فكرها للحظة قبل أن يسترسل من جديد:
"ليس الأمر وكأن الله لم يخلق لكم عقولًا أو لم يعطكم أصابع سبعةَ في كل يد!
استخدموها أيها الحمقى! شغلوا عقولكم الصدئة وحركوا أصابعكم وأتعبوها قليلًا"
رصت على أسنانها والكلمات في رأسها توشك أن تنفجر من شفتيها:
"مهلًا! إن كنتم أغبياء لدرجة أنكم تسخرون مني وأنتم بقربي وتعتقدون رغم ذلك أني لا أسمعكم، فأي فائدةٍ ترجى منكم؟ أوغاد!"
- "سيلا"
رفعت رأسها فوجدت زوجة صاحب المزرعة بوجهها الباسم -كحجارة الصفوان- تقف بجوارها مبتسمةً بفخر.
قالت لها بحنان: "ما أكثر الأكواز التي قشرتها خلال هذه المدة القصيرة! أنتِ رائعة!"
حلّ المساء ، وسار كل شخصٍ نحو بيته طلبًا للراحة ومن بينهم سيلا وقد ازدادت الهالة المضيئة حولها كشبحٍ لطيف!
دخلت منزلها حيث تعيش وحدها، وألقت بجسدها على السرير مغطية عينيها بإحدى ذراعيها، وسرعان ما أجهشت بالبكاء.
"ما الذي يجري لي؟ لماذا أشعر بالألم في صدري؟ أنا معتادةٌ على نظرتهم لي وكأنني مخلوقٌ غريب بينهم، فهذا يحدث لي منذ طفولتي"
انزلقت دمعةٌ من عينيها بسرعة وكأنها تسألها مستنكرة: "أمتأكدةٌ من أنكِ اعتدتِ ذلك سيلǿ منذ الطفولة!؟ بربكِ! أليست هذه هي المشكلة؟"
فاضت دموعها وأخذت تنفس بصعوبة والكلمات التي لطالما تظاهرت بعدم سماعها أخذت تتكرر في رأسها دون توقف.
وفي نوبة حقدٍ مفاجئ ضربت السرير بقوة قائلة:
"حتى أولئك الذين ينظرون لي بإعجاب.. هم أيضًا يجعلونني أشعر وكأنني غير طبيعية! والنتيجة هي.. هي.."
جلست ودارت بعينيها في غرفتها، ثم طأطأت رأسها وأكملت: "أنني أصبحتُ وحيدة!"
يُتبع
المفضلات