السلام عليكم
بين ذئبٍ وفراشَة
كم مرة رآها قبل أن تبدأ قصتهما معًا ؟
من جهته، لم يدرك ذلك قط، أما هي فلم تفكر إطلاقًا بأن عليها العد
إلى أن جاء ذلك اليوم حين ظن بأنهما تقابلا أخيرًا للمرة الأولى.
مال إليها فجأة بكل ما فيه جسدًا وروحًا، قلبًا وعقلًا.
مال إليها بكل ثقةٍ وبلا تردد تمامًا كمن يستسلم للأقدار بكل خضوع وبلا مقاومة.
مال إلى أن عرف الجميع بقصة حبه لها.
يقال بأننا ننجذب للمختلف، وظن الجميع بأن هذا ما حدث له.
رأوه قويًا انجذب للضعف، وكاملًا انجذب للنقص، وشديدًا انجذب للرقة.
وحده أدرك بأن كل ذلك الكلام كان هراءً.
لقد انجذب لما يراه مماثلا له. رآها قويةً، كاملةً وذات بأس.
كيف حكم الناس على قصتهما بالفشل وهما على وفاق؟
لم يفهم ذلك، ولم يشغل باله بالأمر كثيرًا.
كان واثقا بحبهما لدرجة أنه لم يلاحظ إطلاقًا بأنها هي أيضًا كانت لديها شكوك حول نجاح علاقتهما.
كيف لذئبٍ أن يقع في حب فراشة؟
هكذا تساءل الناس، وتساءلت هي معهم في سرها.
كان ذئبًا في قسوته وقوته، وفي غروره وكبريائه.
كان ذئبًا في غضبه ونظراته، وفي تصرفاته وأفكاره.
أما هي، فكانت هادئة وساكنة في أفعالها وأقوالها وكذلك في جمالها.
كانت فراشة حقيقية.
فكيف -إذن- لذئبٍ أن يحب فراشة؟
حين رأته يلاحظ مميزاتها وتفردها عن الأخريات خمّنت أن هذا ما جذبه إليها،
ولكن ذلك كان يناقض حقيقة أنها كانت أمامه لفترة طويلة قبل أن يلاحظ وجودها فجأة، ولم تفتها تلك الحقيقة!
رغم خوفها وشكوكها أحبته، و دعَت الله من كل قلبها أن يجد كلٌ منهما في الآخر مسكنًا يحتمي به عند الحاجة.
رويدًا رويدًا، بدأ يلقي عليها ملاحظات تتكاثر بسرعة البرق،
سماها هو نصائح، وسمتها هي تدخلات؛
عدّ هو الأمر اهتمامًا بها ومحبة لها ورغبة في أن يجعلها أفضل،
وعدت هي الأمر عدم تقبلٍ لشخصيتها وانتقادًا لها ورغبة في السيطرة عليها.
كيف لا تفهم أنه يرغب في مساعدتها كي تكون أكثر كمالًا ؟ أهو عناد أم رد فعلٍ نتيجةَ شعورٍ بالنقص عندها ؟
كيف ينتقد ما تراه ميزةً فيها ونقاط قوة في صالحها ؟ ألا يحبها فعلا أم أنه يغار منها ؟
كيف تصر على أخطائها وعيوبها ؟
كيف يحاول تجريدها من قوتها ؟
ساءت الأمور بينهما، وهمسات الناس وغمزاتهم زادت السوء أكثر وأكثر.
لم يرغب أي منهما أن تنتهي حكايتهما رغم كل التعب الذي يشعران به من اصطدامهما المتكرر.
بدأ الذئب فيه يظهر أمامها في قلة صبره وسرعة غضبه وشدة قسوته،
أزعجه عدم خضوعها له ورأى فيه إهانة مباشرةً لنفسه، ولكنه بقي متعلقًا بها.
ذهب إليها ذات يوم، وأمسك بيديها وسألها بلطف: "أتعرفين قصة بحيرة البجع؟"
أومأت برأسها إيجابًا فتابع: "بطلة القصة أوديت كانت أميرة فاتنة تتحول إوزة جميلة بسبب لعنةٍ ألقِيَت عليها.
هي جميلة في كل حالاتها، ولكن حب الأمير لها سيكسر اللعنة فتتحرر وتكون أميرة فاتنةً طيلة الوقت!"
سكت قليلا وتأمل عينيها كأنه يريد الوصول إلى نقطةٍ ما تختبئ في أعماقها،
ثم قال بصوتٍ امتلأ عطفًا: "أنتِ جميلة بكل حالاتكِ إنما أريدكِ أن تتركي دور البجعة، فهذا أفضل لكِ.
وإن كنتِ تحبين دوركِ كبجعةٍ إلى هذا الحد، فأرجوكِ أن تتنازلي عنه من أجلي!
من أجل حبي لكِ! من أجل كل الأشياء الجميلة التي فعلتها لكِ!"
تلألأت عيناها بالدموع ولم تجب، فختم كلامه بهمسٍ مؤثر: "فهمتني؟"
نطقت بألم: "أجل، فهمت"
تساقطت دموعها وعيناها تنظران إلى عينيه: "فهمت! قابلتُ الكثير من أمثالك!
أنت تريد أن تحصل على كل شيء: على حبٍ يملأ قلبك وعلى تضحياتٍ تلائم تقلُّبك.
أنت تريد شخصًا يتصرف على هواك!"
ارتسمت الدهشة على ملامحه. أراد أن يقول شيئًا ولكن الذهول جمد لسانه،
فقالت: "تقول بحيرة البجع؟ ألم تتعلم المغزى الحقيقي من تلك القصة؟
في الحقيقة فشل الأمير في كسر اللعنة، إلا أن أوديت كانت مستعدة للتضحية بحياتها من أجله لأنها أحبته،
هو أيضا فضل الموت والتضحية بنفسه لأنه أحبها، فهل فهمت؟"
خلال حديثها بدأ الشعور بالإهانة يشتعل في صدره، فصرخ: "أفهم ماذا ؟"
ردت بحزمٍ مباشرة: "أنّ مَن يحب هو مَن يضحي للأشخاص الذين يحبهم بإرادته،
ولا يجلس متكئًا ببرود منتظرًا من الآخرين أن يضحوا من أجله كأنهم يدفعون له الثمن مقابل حبه لهم!"
سحبت يديها من بين يديه وابتعدت عنه قليلا،
ثم قالت بإرهاق والدموع تفيض من عينيها ببطء: "ضحيتُ بكل ما في داخلي من هدوء واستقرار،
ودخلت معك دوامة من القلق والخوف، وبدلا من أن يتحسن الأمر بدأت تهينني
وها أنت تريد إجباري على التضحية بجزء مني واصفًا إياه باللعنة!"
أغمضت عينيها واستدارت راحلة ببطء، وبدَت في عينيه -مرة أخرى- قويةً، كاملةً.. وشديدة!
النهاية
كالعادة:
قصة بعد غياب طويل وانقطاع عن كتابة القصص...
هذه القصة تعبر عن فكرة كانت تجول في رأسي في السنوات الأخيرة وبصراحة تمنيتُ لو عرضتها بطريقة أكثر قوة!
على أي حال.. أنهيتها قبل قليل، أرجو أن تعجبكم
بانتظاركم!
وأيضا كالعادة:
يمنع النقل دون ذكر المصدر
في أمان الله
المفضلات