بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه النووي .
كثيرُ منا يتطلع إلى فضل وشرف مرافقة اشرف المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بجنة الفردوس الأعلى فتلك هي السعادة وتلك هي غاية المنى بمجالسة نبينا ورؤيته ومرافقته في حياة أبدية لا انقطاع لها , فما بالنا لو كانت تلك الحياة في منزلٍ مبارك في أعلى الجنة أي في الفردوس الأعلى تلك الدرجة الرفيعة والقريبة من عرش الرحمن جل في علاه
ومن يا ترى سيكون صاحب البيت ؟!
انه أفضل الناس وأشرفهم جميعاً انه نبي الرحمة عليه أفضل الصلاة والسلام
فلنغمض أعيننا معاً ونسأل أرواحنا القائمة بين صدورنا هل حقاً تتمنى لقاء سيد المرسلين ؟!
هل حقاً ترغب في عيشة هنيئة في الفردوس الأعلى؟!
إن كانت الإجابة نعم ولا أظن أنها ستملك سواها إذاً فلنعطيها درساً من دروس تلك الأخلاق الرفيعة التي يحبها ربنا جل في علاه ويحبها نبينا الكريم والتي هي من أعظم أسباب دخول الجنة بحول الله وقوته ونقول لها يانفس لا راحة لكِ إلا فيما ارتضاه لكِ ربك وخالقكِ جل في علاه
,
,
قال الله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (النساء: 99)
قال ابن الأثير : " من أسماء الله تعالى العفو هو فعول من العفو وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه , وأصله المحو والطمس "
وقال الغزالي : " والعفو صفة من صفات الله تعالى , وهو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي , وهو قريب من الغفور , ولكنه أبلغ منه فإن الغفران ينبئ عن الستر , والعفو ينبئ عن المحو , والمحو أبلغ من الستر. وحظ العبد من ذلك لا يخفى وهو أن يعفو عن كل من ظلمه بل يحسن إليه كما يرى الله تعالى محسناً في الدنيا إلى العصاة والكفرة غير معجل لهم بالعقوبة . بل ربما يعفو عنهم بأن يتوب عليهم , وإذا تاب عليهم محا سيئاتهم , إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له . وهذا غاية المحو للجناية "
قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (النساء: 149)
العفو القدير , أي:يعفو مع مقدرته على الأخذ بالذنب والعقوبة على المعصية .
,
,
قال الحسن رضي الله عنه " أفضل أخلاق المؤمن العفو "
العفو هو التجاوز عن الذنب والخطأ ونسيانه ، وترك العقاب عليه مع القدرة على ذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما نَقصت صدقة من مال، وما زاد الله رجًلا بعفو إلا عزَّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) رواه الترمذي وقال الألباني : صحيح
إن خُلق العفو سبباً من أسباب عزة المسلم ورفعة قدره في الدنيا بين البشر وفي الآخرة عند الله عزوجل ثم أمام الثقلين من الجن والإنس والسر يوم القيامة , وراء رفعة قدر هذا الخُلق العظيم ولماذا كان باب للعزة ورفعة الشأن لأن أثقل شئن على النفس هو نسيانها حقوقها، وتجاوزها عن مظالمها، ومعية الله عزوجل لأهل الإحسان معلومة قال سبحانه: { وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت :69) والعافين عن الناس هم المحسنون. فقال سبحانه : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
قال "شيخ الإسلام ابن تيمية" رحمه الله : " وجماع الخلق الحسن مع الناس أن تصل من قطعك بالسلام، والإكرام، والدعاء له والاستغفار، والثناء عليه، والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم, والمنفعة, والمال، وتعفو عمَن ظلمك في دم، أو مال، أو عرض، وبعض هذا واجب، وبعضه مستحب" ..
وفي لفظٍ لأحمد: ((ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمظلمةٍ فيُغضِي عنها لله إلاَّ أعزَّه الله تعالى بها ونصَره)). فهذِه هي العِزَّة أحبتي في الله ^_^
,
,
والعفو سمة في جبين حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
نبي الله يوسف عليه السلام أُلقي ظلماً في البئر صغيراً وحُرم من أحب الناس إليه وعاش غلاماً بعد أن كان في بيت النبوة ثم سجن في شبابه وبعدها أصبح ذوعزة وسلطان في مصر , ورغم ذلك ضرب أروع مثال في العفو مع القدرة {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.
ونبينا الكريم قدوتنا ومعلمنا وحبيبينا عليه الصلاة والسلام في فتح مكة بعد أن طرد منها وتأمر أهلها على قتله وتعذيب الصحابة بسببهم وأجمعت العرب ضده ورغم انه عليه الصلاة والسلام بيده إبادة أهل مكة في لمح البصر الا انه ذو خلق عظيم ومثالاً راسخاً عظيماً للبشرية فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم ينظرون إليه بقلوب ترتعش خوفاً: (يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟).
قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.. قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)
عن عائشة - رضي الله عنها- أنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد ؟ قال : لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث الله إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال ، فسلم علي ، ثم قال : يا محمد ، فقال : ذلك فيما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئا) رواه البخاري .
,
,
يقول الإمام ابن القيم : " يا ابن ادم .. إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لا يعلمها إلا هو , وإنك تحب أن يغفرها لك الله , فإذا أحببت أن يغفرها لك فاغفر أنت لعباده , وأن أحببت أن يعفوها عنك فاعف أنت عن عباده , فإنما الجزاء من جنس العمل ... تعفو هنا يعفو هناك , تنتقم هنا ينتقم هناك تطالب بالحق هنا يطالب بالحق هناك "
أحبتي في الله نحن لا نعيش في هذه الحياة الدنيا لوحدنا بل نعيش مع أنماط مختلفة من البشر والاحتكاك بهم أمر لا بد منه وقد نتعرض لبعض المواقف الحزينة وبعض الإساءات المتكررة والجروح الدامية منهم وبعض الكلمات الجارحة كسهم من نار يحرق قلوبنا وقد نجد من حولنا يشجعنا على الانتقام والثأر ورد الصاع صاعين واخذ الحقوق , ربما وقتها نشعر بالقوة والفرحة ونشوة الانتصار لكننا عندما نتذكر درجة العافين عن الناس عند رب العباد نطمع في جزيل الثواب ونطمع في كتابة اسمنا
,,
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : " أحب الأمور إلى الله ثلاثة: "العفو في القدرة، والقصد في
الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة".
قال الحسن بنُ علي : " لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه"
وقال جعفرُ الصادِق رحمه الله: "لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة"،
وقال الفضيل بنُ عياض رحمه الله: "إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزّ وجلّ فقل له: إن كنتَ تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛"
,,
كيف نربي أنفسنا ومن معنا على هذا الخلق العظيم ؟
بالدعاء و ورجاء الثواب من عند الله , القدوة الحسنة ,قراءة قصص العفو للأنبياء والصحابة والسلف الصالح , التعرف على جزاء العافين عن الناس عند الله عزوجل فمنها:
1- العفو والمغفرة من الله عزوجل قال الله تعالى:{ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ( النور : 22)
2- العفو هو الطريق إلى .. "الحظ العظيم " قال الله تعالى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ( فصلت : 34-35 ).
3-محبة الله عزوجل للعبد قال الله تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ( المائدة : 13)
4- دخول الجنة ، قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ( الرعد : 22-24) .
وليعلم الجميع أن الحياة الدنيا مجرد ممر لحياة آخري وليس هي بحد ذاتها مستقر , وما حاجة الدنيا وما فائدتها حقيقة إن لم تكن موصلة إلى الآخرة ! بل ما قيمةُ عيشِ المرء على هذه الدنيا أن فقد تلك الأجور العظيمة في الآخرة بسبب زخرف الدنيا وبريقها ! وخسر ان ينادى يوم القيامة على رؤوس الخلائق عزة وكرامة كما قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ((من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء)).
وفوق ذلك كله مغفرة الله عزوجل قال تعالى(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور: 22].وقد جاء عن أبي بكر أنه قال: "بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي: من كان له عند الله شيء فليقم، فيقوم أهل العفو فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس".
دمتم بخير
المفضلات